إذا أردت أن تكون شاعرا جيدا فلست بحاجة الى معاني مخترعة بديعة ولا صنعة محترف بل جوقة موسيقية .
ماكنت أعرف هذا ولكني كنت مشتركا في منتدى لغوي فيه منتدى للشعر وذات يوم قرأت حديثا لرئيس المنتدى مع مشرف انتقدوا فيه شعراء المنتدى نقدا لاذعا وكان مما قاله أحدهم أنه اذا قرأ أول القصيدة فإنه لايستطيع أن يواصل قراءتها من شدة ضعفها .
رئيس المنتدى كان عنده علم كثير جدا في النحو والصرف لكن علمه ليس بكثير في الشعر والبلاغة أي أنه قد لايستطيع أن يفسر لماذا كان هذا الشعر جيدا وهذا الشعر غير جيد إنما يدرك ذلك بالذائقة الفطرية .
هنا شيء مهم .
هو أن كثير من الكلام الذي يصف الشعر أو يتحدث عن الشعر مصدره الذائقة والتذوق وليس أي شخص يستطيع أن يفسر ما أدركته الذائقة بالفطرة لأن هذا هو العلم وإنما صار الشعراء علماء بالشعر لأن الحكم على الشيء فرع من تصوره وهم بستطيعون تصور الأمور التي تتعلق بالشعر فصاروا بهذا علماء بالشعر لكن ليسوا علماء في كل شيء بالشعر إنما في بعض الأمور .
لكنهم أفضل من يفهم الشعر وأفضل من يفهمك من الذين تحدثهم عن الشعر .
المهم بعد ذلك نشرت قصيدة في ذلك المنتدى ففهم رئيس المنتدى أني أنتقده وكان عليه أن يحذف القصيدة حسب قانون المنتدى لكنه لم يفعل ثم صار يطلب مني أن أنشر قصائد .
تعجبت وقلت يبدو أنه قد أعجبته تلك القصيدة فكيف أعجبته ؟
وليس فيها معنى بديع أو تفنن في الصناعة .
خدعتكَ أنغامي بلا فخرِ
فظننتَ أني شاعرُ الدهرِ
أوليس قد قال بأنه إذا قرأ أول القصيدة فإنه لايستطيع أن يواص قراءتها .
لماذا ؟
ماذا يصف بهذا الكلام؟
هذا هو الذي قلته لكم من أن الإنسان يدرك بذائقته مالايعرف تفسيره .
الشعر يصافح الأسماع قبل العقل والفؤاد .
مثل أنك تسمع أول شيء من الأغنية المقدمة الموسيقية ثم تسمع الكلام .
الأذن وسيلة لإدخال الصوت والعين وسيلة لإدخال الصورة والعقل يحلل الصوت والصورة ثم يستنتج ويفهم .
والكتابة هي تحويل الصوت الى صورة ثم تدخل هذه الصورة الى العقل بواسطة العين فيحللها العقل ولابد أنه يفهم نغمها ويشعر به والا كيف تقرأ بيتا ثم تشعر أن وزنه مكسور والوزن نغم وصوت وليس صورة وشكل .
لابد أن العقل يستطيع أن يعرف النغم مكتوبا كما يعرفه منطوقا .
لو أنك رأيت صورة شجرة فإن عقلك يعرف أنها شجرة لأنه يقارن بين الصورة التي رأيتها وصورة مخزنة فيه للشجرة . وهذه الصورة ليس فيها صوت أو نغم .
لكن إذا قرأت كلمة شجلشمام ... وهذه كلمة غير مخزنة في عقلك لأني اخترعتها ... كيف استطعت أن تقرأها ؟ وليس هناك صورة مخزنة لها في عقلك؟
تقول صورة الحروف مخزنة في عقلي .
نعم كذلك .
الحروف لها نسختان صوت وصورة فكما أن في الصوت نغم فكذلك في الصورة نغم لأن الصوت والصورة هما نسختان لشيء واحد .
لكن إذا رأيت شجرة ليس مثل أن تقرأ كلمة شجرة .
إذا قرأت كلمة شجرة تشعر بصوت داخل نفسك وإذا رأيت شجرة لاتشعر بهذا الصوت .
كل هذا الكلام لكي أثبت أن قراءة الشعر مثل سماعه من جهة إدراك العقل لنغمه . وهذا شيء غير ميزة أسلوب إلقاء الشعر لأن الإلقاء يضيف الى الشعر من جودة أسلوب الإلقاء جمالا كأنه قدم لك الشعر في طبق جميل والطبق ليس جزءا من الطعام الذي فيه .
إذاً إن كان هذا الكلام صحيحا فإنك بمعاني عادية وصنعة عادية يمكن أن تكون شاعرا جيدا إذا عزفت حروفك مثل بعض الأغاني التي كلماتها إذا قرأتها كانت سخيفة لكن وهي تغنى يكون لها مذاق حلو .
أما إذا كانت معانيك بديعة وصناعتك إحترافية وحروفك لانغم فيها فلن تكون شاعرا جيدا .
والنغم في الشعر مَلَكَة تُكتسب وليس علما يُعلم إنما العلم يساعد .
الاكتساب ليس مثل التعلم فالتعلم العقل يحفظ بقرار منك لكن الاكتساب يكون لاإراديا فهو ثمرة سنين وأنت تقرأ وتسمع وتكتب الشعر .
هنا سؤال مهم :
كيف يطور الشاعر نغم شعره ؟
ساعد عقلك اللا إرادي على الحفظ واكتساب هذه المَلَكة بغناء شعرك وأنت تنظمه .
أولست تجد سهولة في نظم الشعر على بحر معين أكثر من غيره فهل هذه السهولة من سهولة البحر أم من كثرة نظمك عليه فحفظه عقلك ؟
من كثرة نظمك عليه إنما سهولة البحر الذاتية عامة وسهولة نظمك على بحر معين خاصة بك .
حتى إذا تطور نغم شعرك فإنه يصير له بصمة خاصة به حتى أنه يمكن أن يعرف شعرك من نغمك أي يقرأ بعض خاصة محبي الشعر شعرا ولايعرفون أنه لك فيقولون هذا الشعر لفلان .
وهكذا صار لشعرك نغم خاص به .
والله أعلم