(الجملة القرآنية)
في فصل (الجملة القرآنية) وهو من أثمن فصول الكتاب وأنفعها, يتحدث الرافعي عن الأسلوب البياني الفصيح وما دار في تلك الفترة الحاسمة من جدل وصراع حول ماهية ( المذهب الجديد ) ويتبين لنا من خلال هذا الفصل مدى القلق الذي كان يساور الرجل من مخاطر التجديد بصورته التي رُوّج لها .
وسأتجاوزُ شبهة الحساسية من التجديد التي قد تُثار هنا, إلى تأصيل الرافعي لأصول البيان والكتابة ليقودنا في نهاية الأمر إلى بابٍ أصليٍ كبير لعلي أسميه: (كيف تكتب؟) على اعتبار أنّ باب (ماذا تكتب؟) من المسلّمات التي نتجاوزها هنا نحو الأدوات اللغوية والروافد المعرفية للكاتب مبتدئا كان أو محترفا.
دعونا نعود للشرارة التي أدت بالرجل إلى كتابة هذا الفصل حين قال في مطلع المقال:
( نبهتني إحدى الصحف العربية التي تصدر في أمريكا عندما تناولت الكلام على (رسائل الأحزان) بقولٍ جاء في بعض معانيه أني لو تركت (الجملة القرآنية) والحديث الشريف ونزعتُ إلى غيرهما لكان ذلك أجدى عليَّ ولملأتُ الدهر ثم لحطمتُ في أهل المذهب الجديد حطمةً لا يبعد في أغلب الظن أن تجعلني في الأدب مذهباً وحدي!
ولقد وقفت طويلاً عند قولها (الجملة القرآنية) فظهر لي في نور هذه الكلمة ما لم أكن أراه من قبل, حتى لكأنها (المكروسكوب) وما يجهر به من الجراثيم مما يكون خفيَّاً فيستَعْلِن ودقيقاً فيستعظم, وما يكون كأنه لا شيء ومع ذلك لا تُعرف العلل الكبرى إلا به.) إ.هـ.
إذن فالقضية تبدت له وكأنها حربٌ جديدة يتحتم عليه خوض غمارها, فالأمر لا يتعلق في نظره بلسانٍ ينطق حروفاً أو قلمٍ يكتبها, كلا.. الأمر أكبر من ذلك, لقد كان يرى أن الأبعاد الخطيرة لأطروحات التجديد وإن بدت فنية صرفة إلا أنها تؤدي في النهاية إلى تجفيف المنابع وتنحية المصادر الربانية عن منهج الأمة التي لا يمكن فهمها ومن ثم تطبيقها دون فهمٍ سليمٍ للغة التي كتبت بها.
وتأمل معي هذه الصورة البانورامية الهرمية التي أبدعها حين قال واصفاً تذوّق اللغة:
(ثم ما هي اللغة؟ أفرأيت قط شعباً من الدفاتر قامت عليه حكومة من المجلدات وتملك فيها مَلك من المعجمات الضخمة… أم اللغة هي أنت وأنا ونحن وهو وهي وهم وهن, فإذا أهملناها ولم نأخذها على حقها ولم نحسن القيام عليا وجئت أنت تقول: هذا الأسلوب لا أسيغه فما هو من اللغة, ويقول غيرك: وهذا لا أطيقه فما هو منها, وتقول الأخرى: وأنا امرأة أكتب كتابة أنثى… وانسحبنا على هذا نقول بالرأي ونستريح إلى العجز ونحتج بالضعف ويتخذ كل منا ضعفه أو هواه مقياساً يحدُّ به علم اللغة في أصله وفرعه, فما عسى أن تكون لغتنا هذه بعدُ وما عسى أن يبقى منها وأين تكون نهايتها؟ ثم أي علم من العلوم يصلح على مثل هذا أو يستقيم عليه؟ وفيمَ تكون المجاذبة والمدافعة, وبم يقوم المراء والجدل إذا اتفقنا على أن بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم؟
إن هذه العربية بنيت على أصل سحري يجعل شبابها خالداً عليها فلا تهرم ولا تموت, لأنها أُعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرَين الأرضيِّين العظيمين . كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم, ومن ثم كانت فيها قوة عجيبة من الاستهواء كأنها أُخْـذَة السحر, لا يملك معها البليغ أن يأخذ أو يدع.) إ.هـ.
إن ما سُطّر أعلاه لينوء بالعصبة أولي قوة !
وحريٌ بوزارات التربية والتعليم العربية أن تضعه في مقدمة مناهج اللغة والأدب ليكون نبراساً للناشئة ومصباحاً في طريقهم العلمي, أنظر لهذا التشبيه البليغ العِلق: (شعبٌ من الدفاتر)! وانظر لهذه النظرية العجيبة.. السهلة في مبناها الساحرة في تركيبها ومعناها: (بعض الجهل لا يمكن أن يكون قاعدة في بعض العلم) التي أرى أنها تصلح أن تدرّس كقاعدةٍ أصولية!
وتأمل كذلك في عمق تشبيهه هذا: (لأنها أُعدت من الأزل فلكاً دائراً للنيِّرَين الأرضيِّين العظيمين) فبدأ بالفعل المبني للمجهول_وحاشاه سبحانه وتعالى أن يكون مجهولا_ (أُعِدَّتْ) حيث يرسّخ الرافعي في هذه المفردة منهجاً ودينا ليؤكد أن لغة الضاد ليست فعلاً صوتياً ليندثر كبقية الصوتيات ولا هي بقية حضارة عابرة غابرة لتُحفظ في المتاحف والمكتبات, وإنما هي ناموسٌ من نواميس هذا الكون وآية من آيات الخالق العظيم.. وجدت لتبقى.
ثم تكتمل الصورة المجازية البديعة في المفردة المنتقاة بعناية: (فَلكاً دائراً) ياااه… إنها إذن منظومة متحركة بأمر ربها.. فضاؤها غير الفضاء.. أرضيٌ يحوي كوكبين (نيِّرَين أرضيِّين) يضيئان ليلَ البشرية الحالك وزيادة على هذا فهما في متناول الخلق حين يريدون البصيرة.
إنّ هذا المجاز إنما أراد الرافعي به ربط اللغة بالدين, وهي قضيته الأولى وشغله الشاغل, وهو الذي أدرك ببصيرته وبوعيه أنّ الأمة إنما أُتيت _حين أُتيت_ من باب اللغة والأدب في حيلة استعمارية وجدت صدىً ورواداً من أبناء جلدتها وكادت أن تنطلي على العموم لولا فضل الله وتكفله بحفظ الدين بحفظ اللغة تباعا.
وإنما تعزّ الأمة وتسعد بالعناية باللغة وفهمها على أكمل وجه.
ثم يعلّق الرافعي بسخريته اللاذعة على العجز اللغوي لدى أصحاب المذهب الجديد بقوله:
( فأمّا أن لا تدري يا أبا خالد وتزعم العفة, وأن تعجز ثم تجنح إلى الرأي؛ وأن تضعف ثم تتمدح بالسلامة؛ فهذه أساليب ابتدعها مَنْ قبلك من أذكياء الثعالب… وزعموا أنه اقتصر على القول بأن العنقود حامض وأراه ما اقتصر على ذلك إلا لأن زمنه كان أحسن من زمننا وأسلم وأقرب إلى الصدق… فلو هو كان من ثعالبنا… لزعم بأنه ابتاع زجاجة من الخل وصبها بيده في حبات العنقود الحلو وبذا صار إلى الحموضة ولهذا تركه!
وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه, وهو لو أثنى عليه لطولب به, ولو طولب به لبان عجزه وقصوره, ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟ )إ.هـ.
ونرى هنا إعادةَ صياغة للمثل العربي المعروف بقالبٍ ساخر جعله ملائماً لثعالب المرحلة!
وأقف خاشعاً لأختم الكلام عن هذا الفصل بالتأمل في هذه الحجة الباترة التي ساقها الرافعي بتسلسلٍ منطقي عجيب:
(وكيف تريد ممن عجز عن الفصيح أن يثني عليه, وهو لو أثنى عليه لطولب به, ولو طولب به لبان عجزه وقصوره, ولو ظهر الناس منه على العجز والقصور لما عدُّوه في شيء ولذهب عندهم قليل ما لا يحسنه بالكثير الذي يحسنه؟)إ.هـ.
يتبع..