(3)
في مصنع "نشر " للاسمنت كان ذلك اليهودي الأصلع يستعد للقاء من نوع خاص ..
جلس على مكتبه وقد بدأت أحلام الثراء تراوده وبين يديه الحزام الذي نزعه عمال المصنع من حول وسط "فارس " قبل أن يسلموه للعرب الذين جاءوا لتخلصيه من أيديهم ..
- سيد(شالوم ) وصل يا سيدي ..
قالها أحد العمال فرد عليه اليهودي بلفة :
- أدخله بسرعة
وما هي الا ثوان وكان شالوم يقف أمام (عزرا ) وجهاً لوجه ..
طويل القامة كان ، نحيف ، أبيض البشرة ، حاد النظرات ..
تأمله عزرا ثم أشار له علامة الجلوس ، فقال شالوم :
- عساه أمر يستحق مشقة سفري يا عزرا ..
- هو كذلك سيد شالوم ..
وأخرج من درجه مسدساً حديثاً يبدو وكأنه لا ينتمي الى هذا العصر ، ووضعه على المكتب أمام ضيفه ...
- بحق السماء ، أي سلاح هذا ..
وأمسك السلاح بين يديه يتأمل فيه بانبهار كامل ، كان خبيراً بالأسلحة بأنواعها ، لكن هذا المسدس بخامته وخزنة طلقاته يختلف كلية عما ألفه أو اعتاده ...مسدس "بريتا" آلي بخزنة من تسع طلقات وانسيابية تامة ..
- من أين لك هذا ؟ ..
قالها شالوم وسط انبهاره ، فقال عزرا :
- لا يعنيك من أين ، هو لك إن أرضيتني ..
- وما الذي يرضيك يا هذا ؟
لمعت نظرات عزرا في جشع وهو يقول :
- بضعة آلاف يا صديقي .. فلنقل ... عشرة ..
وهنا ، وقف شالوم محتداً ، واقترب من عزرا وهو يقول في صرامة :
- يبدو أنك لا تفهم الأمر يا عزيزي ، لا يهمنا المبلغ فسندفع ما تريد ، لكنك الآن وبسرعة ستخبرنا من أين أحضرت السلاح وإلا فلسوف أجعل الدنيا تنقلب أمامك في ثوان ، هذا السلاح خطر يهدد الوطن المنشود ، ولا مجال للعب أو التهاون ..
قال عزرا وقد بدأ موقفه يتراجع أمام صرامة محدثه :
- سأخبرك ، سأخبرك بالقصة كاملة ..
وبدأ يروي حكاية فارس الذي وجدوه ملقى في غرفة المدير المغلقة من الخارج ، والتي لا يستطيع أحد الدخول إليها ، وكل هذا دون كسر الباب أو القفل أو اختراق الشباك ، ملقى فاقد الوعي كان ، فضربوه وكانوا يهمون بقتله لولا تخليص بعض العرب له ..
- فهل عرفت أحداً من هؤلاء العرب ؟
- عرفت فيهم الشيخ إبراهيم ، والبقية كانوا يعرفونه جيداً ..
- إذن ، سنحدد مكان هذا الشاب ، وأعتقد أنه سيبيت الليلة عندنا ..
قالها ، ودار على عقبيه وعزرا يتحسس الحزام الفضي ويتأكد من ألا يراه أحد ..
وكان يعلم أنها ستكون ليلة ليلاء ..
******
مضت الساعات وفارس بين طرقات المدينة وبحرها وهوائها وهو لا يكاد يحس بمرور الوقت ، حتى تذكر وعده لأبي الهيثم بأن يكون عنده في حقله ، فعاد إلى البيت منادياً " علي " ومستنداً إليه كانت طريقه عبر المزارع والحقول الخضراء وصولاً إلى الأرض التي يزرعها أبو الهيثم ..
وهناك رآه وقد شمر عن ساعديه وحمل فأسه وانهمك في عمله وقد غطى العرق بشرته السمراء ..
أشار له أن تعال عندما لمحه من بعيد ، فما كان منه إلا أن شمر هو الآخر وهرول ليحمل الفأس الأخرى ويضرب بها كما يفعل أبو الهيثم ..
قال أبو الهيثم :
- أين ستصلي الظهر ..
فارس :
- حيثما تصلي سأصلي ..
أبو الهيثم :
- سنصلي اليوم في مسجد الاستقلال ، فالخطبة بعد الصلاة للشيخ حفظه الله ، وهناك سنعرفك عليه ، علك تنضم لنا وتفيدنا حيثما أنت ..
قال فارس :
- لا أظن أنني سأفيدكم حيثما أنا ، ولكن مع ذلك سأستمع لخطبة شيخكم ، سيسرني ذلك بكل تأكيد ..
وعند صلاة الظهر كانوا قد غسلوا وجوههم وبدلوا ملابسهم وذهبوا إلى الصلاة في المسجد ، كان أبو الهيثم كمن سيلقى شخصاً مهماً جداً ، ولطالما تساءل فارس عن سر هذه الهيبة والاحترام الكبيرين اللذين يحتفظ بهما رجال هذا الشيخ في قلوبهم ..
وأقيمت الصلاة ، كان الإمام ذا صوت رخيم قوي ، رتل القرآن بجودة واقتدار ، حتى لقد نسي فارس نفسه تماماً حتى ظن أنه تاه بين الآيات ..
وانتهت الصلاة ليستدير الشيخ الإمام مواجهاً المصلين ، مستعيذا بالله من الشيطان الرجيم مبتدئا خطبته بالصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم ، ورآه فارس ..
أين رأى هذه الملامح القوية الوقورة ، هذا الشارب الرفيع واللحية التي ابيض طرفها ، هذه الجلابية البيضاء والعمة التي تتوج رأسه ... أين رأى هذا الرجل ..
الخطبة تشتد حماسة والرجل ينسجم فيها ويشتد صوته ويزداد حدة ،وهو يتحدث عما يحاك ويدبر للعرب في فلسطين ، وعما ينوي الانتداب البريطاني فعله ، وعما يخطط اليهود له منذ اللحظة ، رجل عارف بتفاصيل الأمور هذا ، رجل يعرف ما يقول ، وتزداد الخطبة حماسة .. ويزداد الخطيب اشتعالاً .. حتى يراه المصلين بين ذهولهم وانبهارهم ، وقد أخرج سلاحاً كان مخبأً تحت ثيابه ، بندقية قديمة رفعها عالياً وقال في حماس :
- من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر فليقتني مثل هذا ..
الله أكبر ، قالها فارس ولم يتمالك نفسه ، هذا هو الرجل الذي تسمى تنظيمه العسكري على اسمه ، هذا الذي أذاق الانجليز الويلات وأشعل الثورة العربية الأكبر في فلسطين قبل النكبة ، هو عز الدين القسام ذاته ،بشحمه ولحمه ...
لم يستطع فارس الاستمرار في الجلوس ، وقف محدقاً متأملا في ملامح الرجل ، ومثله وقف الكثيرين ، وقد بدأ الهرج والمرج يشتعل في الخارج ..
وظل فارس على دهشته وانبهاره ، حتى وصل البيت وملامح مشعل الثورة لا تكاد تغيب عن ناظريه ، ولم تمض ساعة واحدة حتى جاء أبو الهيثم لفارس بالخبر الكريه :
- اعتقلوا الشيخ القسام ..
قالها وانهار جالساً بجوار فارس وهو لا يقوى على النهوض ..
*********