أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 3 من 3

الموضوع: أيام أبو علي

  1. #1
    الصورة الرمزية راضي الضميري أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2007
    المشاركات : 2,891
    المواضيع : 147
    الردود : 2891
    المعدل اليومي : 0.46

    افتراضي أيام أبو علي

    أيام أبو علي
    التقيته في عمّان ، حيثُ كنت جالسًا في مقهى مشهور هناك وبه ملحق عبارة عن فندق صغير متواضع ، كان الجو باردًا جدًا ، فطلبت مشروبًا ساخنًا لعلًي أشعر ببعض الدفء، وكان هناك جمع غفير من رواد تلك المقهى يلعبون الشيش بيش ويدخنون ويحتسون الشاي والقهوة ، وفجأة اقترب مني ، كان عمره يتراوح فيما بين الخمسين والستين عاما ، فسألني بأدب جم :
    - هل أستطيع الجلوس معك لو تكرمت ؟
    لم أعرف بماذا أردّ ، واستغربت منه هذا الطلب ، خصوصًا وأنّ إحدى الطاولات بجانبي كانت فارغة ، أقلقني تصرفه ، فأوجست منه خيفة ، ثمّ تردّدت بعض الشيء ، لكنّني سمحت له بالجلوس .
    جلس الرجل وطلب أرجيلة وكوبًا من الشاي ، وهو هادئ تمامًا ، ويبدو أنّه لاحظ القلق الذي بدا عليّ ، فبدأ يتحدث معي في محاولة منه لإزالة أي سوء فهم أو التباس ؛ ثمّ سألني :
    - هل أنت من فلسطين ؟ .
    فأجبته والقلق بادي على وجهي :
    - نعم ، أنا من فلسطين .
    ثمّ عاجلني بسؤال آخر :
    - وماذا تعرف عن فلسطين ؟
    لم أعرف حقيقة بماذا أجيبه ، مع كل الوساوس التي ركبتني وأربكتني ، فذكرت له أسماء بعض المدن والقرى التي أعرفها ، فردَّ عليّ قائلًا :
    - أنت لم تزر فلسطين قطّ ، ولكنك سمعت أو قرأت عن هذه المدن والقرى ؛ أليس كذلك ؟
    كان كلامه كوقع الصاعقة عليّ ، لأنّني فعلًا لم أزر فلسطين ؛ بل كنت صغيرًا ولم يتجاوز عمري السنتين عندما كنت برفقة والدي حين زارها لآخر مرة ، فقلت له بشيء من الانزعاج :
    - في الواقع أنا لم أزر فلسطين ، ولكن أعرف مدنها كلها ، و ما هذه الأسماء التي ذكرتها لك إلا لبعض الأماكن التي يقطن فيها أصدقائي الذين تعرفت عليهم أثناء الدراسة الجامعية .
    ردّ عليّ بابتسامة لطيفة قائلًا :
    - لقد عرفت ذلك من طريقة كلامك ، وعلى كل حال لا تنزعج من أسئلتي ؛ فأنا من فلسطين وأقطن هناك واسمي أبو علي .:
    - تشرفنا يا عم أبو علي
    - لكنك لم تخبرني باسمك ؟
    بصراحة لم أعرف بما أجيب ، فقد كنت أودّ لو تنتهي هذه المحادثة ، ويرحل بعيدًا عني ، ثمّ خطر لي أنْ أقول أي اسم يخطر على بالي ، لكنّني لم أشعر بنفسي وأنا أردّ عليه قائلًا :
    - وأنا اسمي راضي .
    - تشرفنا يا بني .
    ساد الصمت بعدها ولم يتكلم ، وبدأ يدخن أرجيلته بهدوء تام ، ثمّ سألني :
    - هل لديك أقارب في فلسطين ؟
    - نعم لدي أقارب ما زالوا يعيشون هناك .
    - ألم تشتاق إلى فلسطين ، ألا تفكّر في زيارتها ؟
    - في الواقع لا أستطيع أنْ أذهب إلى هناك لعدّة أسباب ، وإنْ شاء الله سأزورها عندما يحين الوقت المناسب .
    - فلسطين جميلة جدًا ، لكنك لم تقل لي من أين أنت في فلسطين ؟
    لا أعرف كيف بدأت أتكلم عن فلسطين ، وعن كل ما سمعته من أهلي عنها ، وكيف كانوا يعيشون فيها ، وعن أراضيهم وممتلكاتهم هناك ، وكيف أنّنا ما زلنا نحتفظ ببعض السندات التي تثبت ملكيتنا لتلك الأراضي ، ثمّ قال لي :
    - رغم امتلاكي لسندات تثبت ملكيتي لأرضي إلا أنّ اليهود ما زالوا يحاولون السيطرة عليها ، ولقد صادروا لي قطعة أرض بدعوى أنّها لا تعود لملكيتي ، إلا أنّني لم أعترف بتلك الإجراءات التي اتخذوها ، رغم أنّهم يستدعونني إلى المحكمة بين حين وآخر لكي أتنازل عنها ، إلا أنّني أرفض ذلك ، وقد وكلت محامي ليترافع عني في هذه القضية ، وما زلت حتى اليوم أزرعها بالبصل وما أنْ يعلموا بذلك حتى يأتون فيقتلعونه ويخربونه ، وما أنْ يذهبوا حتى أعود فأزرعها من جديد وبالبصل أيضًا .
    قلت له وقد انزاحت عني كل تلك الوساوس والشكوك ، وشعرت براحة كبيرة في الحديث معه :
    - كلما زرعتها يقتلعونها ويخرّبونها ، ثمّ تعود فتزرعها وبصل !! لماذا البصل تحديدًا ؟
    ردّ عليّ وبلهجة لا تخلو من التحدي :
    - لأنّني شعرت بأنّ البصل يزعجهم أثناء اقتلاعه ، وقد تعرضت للضرب منهم أكثر من مرّة بسبب هذا الأمر ، لكنّني لن أتخلى عن أرضي .
    أعجبني كلامه كثيرًا ، وشعرت أنّني أمام رجل يملك صلابة جبل حقيقي ثمّ سألته :
    - ولكن ماذا سيكون مصير هذه الأرض ؟
    فأجابني قائلًا :
    - ما زالت القضية منظورة في المحكمة ، وهم يريدون مني أنْ أتنازل عنها ، لكنّني لن أفعل ، وقد طلبوني للمحكمة قبل شهور ، فذهبت هناك ومعيّ المحامي ، وعندما دخلت إلى قاعة المحكمة طلب مني رئيسها أنْ أوقع على التنازل ، فهم يريدون أنْ تكون الإجراءات قانونية ، فهل تعلم ماذا فعلت ؟
    سألته بدهشة :
    - ماذا فعلت ؟
    طالعني بنظرة كلها ثقة وأجاب :
    - قلت له أين تريدني أنْ أوقّع ، فقال لي اقترب ووقع على هذه الأوراق ، فاقتربت منه ، وأمسكت بالقلم وقد أوهمته بأنّني سأوقع على الأوراق ؛ ثمّ صرخت فيه بأعلى صوتي : " يا كلب أين ولدت ، ومن أين جئت ؟ ، من بولندا أو روسيا ، هذه أرضي وأرض أجدادي ؛ ثم مزقت كل الأوراق التي أمامي ، واندفع الجنود نحوي ، وأخذوا يضربونني ، والمحامي يصرخ في رئيس المحكمة طالبًا منه إبعادهم عني ، ثمّ اقتادوني إلى السجن ، وبقيت فيه فترة من الوقت وبعدها أفرجوا عني .
    لم أعرف بماذا أردّ عليه ، رجل كبير ، يدافع عن أرضه و يضرب ويهان ، ولكنّه يتحدث عن كل ذلك بأريحية تامة ، وكأنّه يلقي قصيدة عصماء أمام جمهور كبير ، ثمّ قلت له :
    - هل لديك أي أقارب أو معارف هنا ؟
    ردّ عليّ بالنفي ، ثمّ سألته :
    - ولكن ماذا تفعل في عمّان ؟
    - أنا ذاهب إلى السعودية من أجل أداء العمرة عن ابني الشهيد .
    - ومتى استشهد ابنك ؟
    - لقد استشهد اثنين من أبنائي في الانتفاضة - الانتفاضة الأولى 1987 - وفي السجن يوجد - ثلاثة أو اثنين لا أذكر بالضبط العدد - وفي العام الماضي اعتمرت عن ابني الأول ؛ وفي هذه السنة سأعتمر عن ابني الثاني .
    ثمّ بدأ يسرد لي كيف استشهد أبناؤه ، ويذكر التفاصيل وكأنّها ما زالت تحدث أمامه وعلى الهواء مباشرة ، وهو كما هو لم يتغيّر ؛ قوي النفس ، ثابت الجنان ، لدرجة أنّ من يراه وهو يتحدث لا يمكن أن يتوقع أنّه يتكلم عن أبناءه .
    استمر الحديث بيننا لأكثر من ساعة ، ثمّ استأذن بالانصراف لأنّه سيسافر في اليوم التالي إلى السعودية ، وسلّم على بحرارة وكأنّه يعرفني منذ زمن طويل ، ذهب وتركني مع نفسي أحاورها ؛ وعباراته الممتلئة بالثقة والإيمان بالله تعالى تتردد في أذني ، " يا كلب أين ولدت و من أين جئت " نعم ؛ أين ولدوا ومن أين جاءوا هؤلاء الكلاب ؟
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  2. #2
    أديب
    تاريخ التسجيل : Aug 2007
    الدولة : سيرتـا
    العمر : 46
    المشاركات : 3,845
    المواضيع : 82
    الردود : 3845
    المعدل اليومي : 0.63

    افتراضي

    الصديق الجميل / راضي الضميري

    و من أجل ذلك لا يمكن أن تتجسد دولة بني صهيون , كدولة لها كل المقومات لأنها حقيقة تفتقد لكل المقومات و معيار القوة هو معيار آني يتغير مع الزمن , و لكن هذه الصور هي من تخلد أحقية المرء بأرضه و وطنه و هذا الاصرار على الانتماء و التشبث بالحق هو من يجعل كل مغتصب حائرا خائفا , مهزوزا من الداخل برغم كل الجولات التي يستعرض فيها عضلاته و يكشف عن مدى قوته و جبروته , و لكن القوة التي لا تصاحبها مبادئ ثابتة و العضلات التي لا تربطها صلة وثيقة برائحة الأرض هي عضلات منفوخة بهواء الإدعاءات الباطلة .

    هذه القوة الذاتية التي يتمتع بها أبو علي و غيره من الآلاف هي القوة الحقيقية التي مهما طال الزمن ستنتصرُ لأنها تستمدُ طاقتها من حق مشروع و ثوابت لا تتغير وفق الأهواء أو المصالح .

    الأرض تعرف أصحابها و لن تتخلى عنهم ما داموا لم يتخلوا عنها , و ستلفظ كل غريب ظن في لحظة حمق أنها قد تحتملُ عفن خطواته النتنة .

    دمت و كتاباتك الواعية ...

    اكليل من الزهر يغلف قلبك
    هشـام
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  3. #3
    الصورة الرمزية راضي الضميري أديب
    تاريخ التسجيل : Feb 2007
    المشاركات : 2,891
    المواضيع : 147
    الردود : 2891
    المعدل اليومي : 0.46

    افتراضي

    اقتباس المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هشام عزاس مشاهدة المشاركة
    الصديق الجميل / راضي الضميري

    و من أجل ذلك لا يمكن أن تتجسد دولة بني صهيون , كدولة لها كل المقومات لأنها حقيقة تفتقد لكل المقومات و معيار القوة هو معيار آني يتغير مع الزمن , و لكن هذه الصور هي من تخلد أحقية المرء بأرضه و وطنه و هذا الاصرار على الانتماء و التشبث بالحق هو من يجعل كل مغتصب حائرا خائفا , مهزوزا من الداخل برغم كل الجولات التي يستعرض فيها عضلاته و يكشف عن مدى قوته و جبروته , و لكن القوة التي لا تصاحبها مبادئ ثابتة و العضلات التي لا تربطها صلة وثيقة برائحة الأرض هي عضلات منفوخة بهواء الإدعاءات الباطلة .

    هذه القوة الذاتية التي يتمتع بها أبو علي و غيره من الآلاف هي القوة الحقيقية التي مهما طال الزمن ستنتصرُ لأنها تستمدُ طاقتها من حق مشروع و ثوابت لا تتغير وفق الأهواء أو المصالح .

    الأرض تعرف أصحابها و لن تتخلى عنهم ما داموا لم يتخلوا عنها , و ستلفظ كل غريب ظن في لحظة حمق أنها قد تحتملُ عفن خطواته النتنة .

    دمت و كتاباتك الواعية ...

    اكليل من الزهر يغلف قلبك
    هشـام
    الصديق العزيز هشام
    بالفعل ما ذكرته هو عين الحقيقة ، فعلى مثل هؤلاء الرجال نراهن على دحر هذا العدو القبيح شكلًا ومضمونًا .
    وهناك الملايين من أمثاله ، ولأجل هذا نعانق الأمل وننتظر و على موعد قادم لحساب نهائي معهم ومع أمثالهم .
    تقديري واحترامي

المواضيع المتشابهه

  1. المارد في يوم من أيام القرن الواحد والعشرين
    بواسطة وردة الصباح في المنتدى أَدَبُ الطِّفْلِ (لأطفالنا نحكي)
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 21-11-2006, 06:10 PM
  2. أيام المظاهرات .. أحسان عبد القدوس ..قصة قصيرة
    بواسطة بهاء كامل في المنتدى الاسْترَاحَةُ
    مشاركات: 2
    آخر مشاركة: 06-08-2006, 10:54 PM
  3. أيام الندم ستكون عليهم وعلى حكامنا بإذن الله
    بواسطة قلم رصاص في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 6
    آخر مشاركة: 18-11-2004, 12:23 PM
  4. رسالتي لابنتي رغد في أيام الرغد!
    بواسطة د. ندى إدريس في المنتدى الحِوَارُ الإِسْلامِي
    مشاركات: 11
    آخر مشاركة: 05-07-2004, 05:03 PM
  5. بقي أيام قلائل
    بواسطة أبو القاسم في المنتدى النَّثْرُ الأَدَبِيُّ
    مشاركات: 0
    آخر مشاركة: 27-05-2003, 01:34 AM