أيام أبو علي
التقيته في عمّان ، حيثُ كنت جالسًا في مقهى مشهور هناك وبه ملحق عبارة عن فندق صغير متواضع ، كان الجو باردًا جدًا ، فطلبت مشروبًا ساخنًا لعلًي أشعر ببعض الدفء، وكان هناك جمع غفير من رواد تلك المقهى يلعبون الشيش بيش ويدخنون ويحتسون الشاي والقهوة ، وفجأة اقترب مني ، كان عمره يتراوح فيما بين الخمسين والستين عاما ، فسألني بأدب جم :
- هل أستطيع الجلوس معك لو تكرمت ؟
لم أعرف بماذا أردّ ، واستغربت منه هذا الطلب ، خصوصًا وأنّ إحدى الطاولات بجانبي كانت فارغة ، أقلقني تصرفه ، فأوجست منه خيفة ، ثمّ تردّدت بعض الشيء ، لكنّني سمحت له بالجلوس .
جلس الرجل وطلب أرجيلة وكوبًا من الشاي ، وهو هادئ تمامًا ، ويبدو أنّه لاحظ القلق الذي بدا عليّ ، فبدأ يتحدث معي في محاولة منه لإزالة أي سوء فهم أو التباس ؛ ثمّ سألني :
- هل أنت من فلسطين ؟ .
فأجبته والقلق بادي على وجهي :
- نعم ، أنا من فلسطين .
ثمّ عاجلني بسؤال آخر :
- وماذا تعرف عن فلسطين ؟
لم أعرف حقيقة بماذا أجيبه ، مع كل الوساوس التي ركبتني وأربكتني ، فذكرت له أسماء بعض المدن والقرى التي أعرفها ، فردَّ عليّ قائلًا :
- أنت لم تزر فلسطين قطّ ، ولكنك سمعت أو قرأت عن هذه المدن والقرى ؛ أليس كذلك ؟
كان كلامه كوقع الصاعقة عليّ ، لأنّني فعلًا لم أزر فلسطين ؛ بل كنت صغيرًا ولم يتجاوز عمري السنتين عندما كنت برفقة والدي حين زارها لآخر مرة ، فقلت له بشيء من الانزعاج :
- في الواقع أنا لم أزر فلسطين ، ولكن أعرف مدنها كلها ، و ما هذه الأسماء التي ذكرتها لك إلا لبعض الأماكن التي يقطن فيها أصدقائي الذين تعرفت عليهم أثناء الدراسة الجامعية .
ردّ عليّ بابتسامة لطيفة قائلًا :
- لقد عرفت ذلك من طريقة كلامك ، وعلى كل حال لا تنزعج من أسئلتي ؛ فأنا من فلسطين وأقطن هناك واسمي أبو علي .:
- تشرفنا يا عم أبو علي
- لكنك لم تخبرني باسمك ؟
بصراحة لم أعرف بما أجيب ، فقد كنت أودّ لو تنتهي هذه المحادثة ، ويرحل بعيدًا عني ، ثمّ خطر لي أنْ أقول أي اسم يخطر على بالي ، لكنّني لم أشعر بنفسي وأنا أردّ عليه قائلًا :
- وأنا اسمي راضي .
- تشرفنا يا بني .
ساد الصمت بعدها ولم يتكلم ، وبدأ يدخن أرجيلته بهدوء تام ، ثمّ سألني :
- هل لديك أقارب في فلسطين ؟
- نعم لدي أقارب ما زالوا يعيشون هناك .
- ألم تشتاق إلى فلسطين ، ألا تفكّر في زيارتها ؟
- في الواقع لا أستطيع أنْ أذهب إلى هناك لعدّة أسباب ، وإنْ شاء الله سأزورها عندما يحين الوقت المناسب .
- فلسطين جميلة جدًا ، لكنك لم تقل لي من أين أنت في فلسطين ؟
لا أعرف كيف بدأت أتكلم عن فلسطين ، وعن كل ما سمعته من أهلي عنها ، وكيف كانوا يعيشون فيها ، وعن أراضيهم وممتلكاتهم هناك ، وكيف أنّنا ما زلنا نحتفظ ببعض السندات التي تثبت ملكيتنا لتلك الأراضي ، ثمّ قال لي :
- رغم امتلاكي لسندات تثبت ملكيتي لأرضي إلا أنّ اليهود ما زالوا يحاولون السيطرة عليها ، ولقد صادروا لي قطعة أرض بدعوى أنّها لا تعود لملكيتي ، إلا أنّني لم أعترف بتلك الإجراءات التي اتخذوها ، رغم أنّهم يستدعونني إلى المحكمة بين حين وآخر لكي أتنازل عنها ، إلا أنّني أرفض ذلك ، وقد وكلت محامي ليترافع عني في هذه القضية ، وما زلت حتى اليوم أزرعها بالبصل وما أنْ يعلموا بذلك حتى يأتون فيقتلعونه ويخربونه ، وما أنْ يذهبوا حتى أعود فأزرعها من جديد وبالبصل أيضًا .
قلت له وقد انزاحت عني كل تلك الوساوس والشكوك ، وشعرت براحة كبيرة في الحديث معه :
- كلما زرعتها يقتلعونها ويخرّبونها ، ثمّ تعود فتزرعها وبصل !! لماذا البصل تحديدًا ؟
ردّ عليّ وبلهجة لا تخلو من التحدي :
- لأنّني شعرت بأنّ البصل يزعجهم أثناء اقتلاعه ، وقد تعرضت للضرب منهم أكثر من مرّة بسبب هذا الأمر ، لكنّني لن أتخلى عن أرضي .
أعجبني كلامه كثيرًا ، وشعرت أنّني أمام رجل يملك صلابة جبل حقيقي ثمّ سألته :
- ولكن ماذا سيكون مصير هذه الأرض ؟
فأجابني قائلًا :
- ما زالت القضية منظورة في المحكمة ، وهم يريدون مني أنْ أتنازل عنها ، لكنّني لن أفعل ، وقد طلبوني للمحكمة قبل شهور ، فذهبت هناك ومعيّ المحامي ، وعندما دخلت إلى قاعة المحكمة طلب مني رئيسها أنْ أوقع على التنازل ، فهم يريدون أنْ تكون الإجراءات قانونية ، فهل تعلم ماذا فعلت ؟
سألته بدهشة :
- ماذا فعلت ؟
طالعني بنظرة كلها ثقة وأجاب :
- قلت له أين تريدني أنْ أوقّع ، فقال لي اقترب ووقع على هذه الأوراق ، فاقتربت منه ، وأمسكت بالقلم وقد أوهمته بأنّني سأوقع على الأوراق ؛ ثمّ صرخت فيه بأعلى صوتي : " يا كلب أين ولدت ، ومن أين جئت ؟ ، من بولندا أو روسيا ، هذه أرضي وأرض أجدادي ؛ ثم مزقت كل الأوراق التي أمامي ، واندفع الجنود نحوي ، وأخذوا يضربونني ، والمحامي يصرخ في رئيس المحكمة طالبًا منه إبعادهم عني ، ثمّ اقتادوني إلى السجن ، وبقيت فيه فترة من الوقت وبعدها أفرجوا عني .
لم أعرف بماذا أردّ عليه ، رجل كبير ، يدافع عن أرضه و يضرب ويهان ، ولكنّه يتحدث عن كل ذلك بأريحية تامة ، وكأنّه يلقي قصيدة عصماء أمام جمهور كبير ، ثمّ قلت له :
- هل لديك أي أقارب أو معارف هنا ؟
ردّ عليّ بالنفي ، ثمّ سألته :
- ولكن ماذا تفعل في عمّان ؟
- أنا ذاهب إلى السعودية من أجل أداء العمرة عن ابني الشهيد .
- ومتى استشهد ابنك ؟
- لقد استشهد اثنين من أبنائي في الانتفاضة - الانتفاضة الأولى 1987 - وفي السجن يوجد - ثلاثة أو اثنين لا أذكر بالضبط العدد - وفي العام الماضي اعتمرت عن ابني الأول ؛ وفي هذه السنة سأعتمر عن ابني الثاني .
ثمّ بدأ يسرد لي كيف استشهد أبناؤه ، ويذكر التفاصيل وكأنّها ما زالت تحدث أمامه وعلى الهواء مباشرة ، وهو كما هو لم يتغيّر ؛ قوي النفس ، ثابت الجنان ، لدرجة أنّ من يراه وهو يتحدث لا يمكن أن يتوقع أنّه يتكلم عن أبناءه .
استمر الحديث بيننا لأكثر من ساعة ، ثمّ استأذن بالانصراف لأنّه سيسافر في اليوم التالي إلى السعودية ، وسلّم على بحرارة وكأنّه يعرفني منذ زمن طويل ، ذهب وتركني مع نفسي أحاورها ؛ وعباراته الممتلئة بالثقة والإيمان بالله تعالى تتردد في أذني ، " يا كلب أين ولدت و من أين جئت " نعم ؛ أين ولدوا ومن أين جاءوا هؤلاء الكلاب ؟