الحمار الخواف
كنت طفلا صغيرا عندما كان والدي يغرس البصل مع شاب يساعده. كنت ألعب في الهامش أجمع الطوب و الحصى ، أبني بيتا، أرسم ساقية ، لي حمار صغير صنعته من طين لازب؛ربطت له من الخلف قطعة قصب جارحة بمثابة محراث ...
كان والدي منهمكا في عمله .غرس البصل عمل يتعب الظهر و الركبتين، يفضل الفلاح لحظتها أن يظل جالسا القرفصاء على أن يقوم مستويا؛ نظرا لما يحسه من ألم وهو يحاول الوقوف مستقيما بعد طول جلوس..
كان الوقت قبيل المغرب عندما التفت والدي أخيرا إلى وجودي ... سمعت نداءه فهمت أن الوقت وقت الاستعداد للعودة إلى البيت، وواجبي جمع اللوازم ووضعها على ظهر الحمار ربحا للوقت..
لم يكن الأمر كما اعتدت وتوقعت .. رمى لي والدي بالمنجل طالبا مني أن أمتطي الحمار مسرعا إلى حقل آخر جنب الوادي، حيث المطلوب مني أن أحش الخلى للأغنام، لأنه مضطر إلى التوجه إلى حقل آخر ليعالجه بمبيدات الحشرات قبل أن يلحق بي لنعود معا إلى البيت
..
لم أصدق الأمر لكن لا مجال لرفض أوامر الوالد. أخذت المنجل، امتطيت الحمار، و انطقت صوب الحقل المعلوم.
كان لنا حمار أشهب خواف جدا، يكفي أن يكون الحمار أشهب ليشعرك بعدم الارتياح.الحمار الأشهب عندنا في البلد رمز للحيل و الكسل..وزاد حمارنا على زملائه بالخوف كل الخوف. كان يمد أذنيه الطويلتين إلى الأمام ثم يقفز هلعا، أو يتراجع للوراء كما السيارة، أو ربما تسمر في مكانه. ويكاد يموت كلما رأى كيسا بلاستيكيا أسود تحركه نسيمات ريح.
سرت أطوي المسافات، و عند اقترابي من الحقل تناهى إلى سمعي أذان المغرب و نبضات قلبي تزداد سرعة من شدة الخوف، ربما أكثر من خوف حمارنا.
ربطت عنان الحمار على جريدة نخلة، أخذت المنجل مسرعا لأحش ما تيسر قبل أن يدركني الوالد و قبله الظلام.. بدأت أحش وأنا أسمع نباح الكلاب من كل جانب و كأنهم اتفقوا على أن يتحلقوا حولي حتى لا يفر منهم هذا الجسد الغض الطري .و كم زاد خوفي و هلعي و أنا ألمح " عم أحمد " على ظهر حماره ، لأنني علمت غير علم شك أنني الأخير هنا مادام "عم أحمد" المعروف بأنه آخر من يترك الحقول قد غادر .. حرصا على حماية شجيراته من عبث الأطفال المتخصصين في جني الفواكه قبل نضجها .
اجتهدت لأسرع على قدر ما يحتمل جسدي الصغير. جمعت ما ظننته يكفي لسد رمق الماشية لليلة على الأكثر.كان الظلام قد غطى الأرض تماما، و الوالد لم يظهر له أثر بعد.استولى علي الخوف.شعرت برغبة في البكاء، لكن خفت.. إن سمعني والدي سيضربني لأنه لا يريدني أن أكون خوافا ، و إن سمع القصة صبيان القرية سينعتونني بالخواف ما دمت حيا أو ربما إلى أن يرث الله الأرض و من عليها.
بحثت عن أخف الأضرار، وهو مغادرة الحقول و العودة إلى القرية، ووالدي سيجدني أكيد في البيت إن لم يتوزع دمي بين قبائل الكلاب..
كذلك فعلت، أخذت ما حششت لأضعه على ظهر الحمار..
رآني الحمار الخواف و أنا في الظلام، حسبني شبحا، أو لعلها من حيل الحمار الأشهب.قفز قفزا فاقتلع جريدة النخلة من جذرها بكل ما أوتي من قوة و فر هاربا... تضاعف خوفي لأني صرت أوحد بعدما غادر الحمار. رميت ما في يدي وجريت خلفه و أطلقت العنان للبكاء فالمصيبة أنجبت مصائب. كنت أشعر أن شيئا ثالثا يجري خلفي لكن الأفضل ألا ألتفت ورائي لأني إن رأيته لن أستطيع الركض ..
كان الحمار يجري بسرعة و يوسِّع فارق المسافة بيني و بينه، و تزداد شهقاتي و سرعتي في نفس الآن، إلى أن اقتربت من مدخل القرية حيث بدأت أسمع أصوات الناس و حركتهم و أرى أضواء المنازل. توقفت لأستجمع قواي و أستعيد رباطة جأشي .مسحت دموعي و تحركت ببطء كرجل صغير لا يهاب الظلام .
وجدت الحمار الخواف في مكانه و أنا أطرح السؤال على نفسي كيف يذكر الحمار الطريق و يعرف زاويته في الحظيرة؟؟؟
ارتميت في حضن أمي و حكيت لها ما جرى ، مسحت دموعي و أسندتني على ركبتها و هي تربت على كتفي . وصل والدي، حكت له الحكاية و أنا أسمع و أستبق حظ خدي من صفعاته التي سيظل صداها يسمع في أذني لأيام. أسمعني والدي كل عبارات الوعيد وانطق على متن الحمار الأشهب الخواف عائدا إلى الحقل ليحمل ما حششت من الخلى للأغنام.أما أنا فقد غرقت في النوم قصد تأجيل موعد العقاب حتى الصباح على الأقل، أو ربما ينسى والدي أو يحن قلبه على هذا الهيكل الرقيق.
في الصباح استيقظت.. ليس في حجر أمي بل في فراشي دون أن أتذكر متى غيرت أمي مكان نومي ، و لا ما وقع مع أبي بعد عودته.
لم أفهم شيئا انتابني إحساس بين الشك و اليقين، و بدأت أبحث عن مكان ضربات والدي مستفسرا والدتي، نظرت إلي و هي تبتسم و نادتني إلى جنبها و أمدتني بحساء صباحي دافئ، وبدأت تسرد ما وقع...
لما عاد أبي إلى الحقل أوقف الحمار و جمع الخلى في الغرارة، ولما حملها لوضعها على ظهر الحمار حدثت نفس القصة وفر الحمار الخواف ، وما كان عليه إلا أن يحملها على ظهره ويعود راجلا كما عدت ...فكان العقاب من نصيب الحمار، بل إن والدي قرر بيعه في سوق بعيد كي لا يرى أثره مجددا...
ابراهيم السكوري
09/12/ 2008