بؤس الثقافة
مثقف برسم البيع ، ومثقف باع نفسه وقبل أنْ يقبض الثمن ، ومثقف برسم الجنون ؛ ومثقف حائر لم يرسو بعد على وجهة محددة بفعل الضياع الذي سبّبه له خوفه من نفسه و على ذاته ، ومثقف ما زال يحاول أنْ يقنع نفسه بأنّه مثقف .
بعد درس غزة ، تكشفت حقائق عدّة أمام الجميع ، وخرجت جحافل الفئران من جحورها ؛ ورأينا قنوات فضائية و صحف ومجلات كتب أصحابها مقالات تهاجم ليس المقاومة فقط بل الشعوب التي خرجت ثائرة وغاضبة ، واتهموها بالجهل والمراهقة السياسية ، بل إنّ البعض منهم هاجم وبقسوة كبيرة وبتشفّي ظاهر - حسدهم عليه العدو ومن تآمر معه - بعض الشهداء ووصفهم بالهالكين وبالقتلى ، وزرعوا وما زالوا يزرعون بذور الشك والإحباط في قلوب الحائرين واللا مهتدين إلى حقيقة كل ما جرى وما سيجري لاحقًا ، ودعوا إلى الوقوف في وجه الإرهاب ؛ إرهاب صاحب الحق الشرعي ؛الضعيف ماديًا والقوي معنويًا في وجه بطش المعتدي ؛ القوي ظاهرًا - الجبان - ماديًا ؛ والفاقد لأدنى المقومات المعنوية و النفسية والروحية والتي قد تؤهله للاستمرار في مشروعه الميت إكلينيكيًا ، خرجت جحافل الفئران ( المثقفة ) وشتى أنواع القوارض والحاملة لأعلى الشهادات العلمية والأكاديمية ، والتي التي مسخت نفسها ؛ وانحازت بحكم فطرتها السقيمة إلى الجانب الآخر ، و ظنّوا بأنّ الالتحاق بركب الذين تقلبوا في البلاد ، وطغوا وتجبّروا على العباد سيكتب لهم النجاة ، فاشتغلت على بث روح اليأس والخوف من قوة ذاك الوحش – الضعيف - في قلوب العباد ، وانهمكت في مسابقة فطرتها بل والتفوق على السقامة نفسها في إبراز وجهها القبيح ، وخبث روحها ، ومنشأ هويتها ، فلم يعد من مجال أمام ما تبقَ من الأحياء إلا إعمال الفرز ومواجهة حقيقة أنّ هذا العالم الذي نعيشه لم يعد صالحًا للحياة بفعل حجم هذا التلوث الذي أفرز جراثيم وفيروسات لا مجال للعيش معها أو ملاطفتها أو إخفاء حقيقتها بعد الآن .
لم يعد يقلقني تعريف المثقف ؛ ولم يعد يشكل لي أي ارتباك ، ولم يعد مهمًا أنْ يتكلم هذا الفأر أو ذاك بمفاهيم مهجنّة وعلى طريقة النعجة دوللي وفي يده قاموس لترجمة المفاهيم المستوردة ، أو تلك التي تم تعريبها وفق مصالح فئوية أو تآمرية ، صحيح أنّ هناك من حاول و ما زال يحاول أنْ يضع تعريفًا جامعًا مانعًا يصف فيه كنه هذا المثقف ومكوناته ، رغم صعوبة هذا الأمر أكاديميًا ، إلا أنّ البعض قد حصر نفسه في زاوية ضيقة جدًا ؛ وخرج بوصف فصّله بنفسه أو بوصفة خارجية ليناسب مقاسه ، ظنًّا منّه أنّه هو المقصود بهذا التعريف لأنّه يوافق هواه ، أو على الأقل ما يدّعي أنّه يمتلك مقوماته ، فكان الأمر في أحسن الأحوال كمن يلبس حذاءً وجده جميلًا ولكن لا يناسب مقاس قدميه ؛ فلبسه رغم أنفه الذي فقد حاسة الشمّ من رائحة قدماه العفنة ، وفقد على أثرها حواسه الأخرى ، بفعل الضغط الناجم من الأسفل إلى الأعلى حيث الرأس فقد تركيزه ، وأبت الأذن الوسطى الانسجام مع واقعه فلفظته وطرحته أرضًا ، كما الأرض لم تعد تطيق هذه الجحافل من الفئران التي تكاثرت بفعل الأمراض الخبيثة التي نشأت في نفوسهم ؛ بفعل التآمر والعمالة وربما الجبن التي أحدثت دمارًا كبيرًا في جيناتهم وفي هندستهم الوراثية ، فأصبحوا كما الروبوت يوجهون عن بُعد وبدون أي عناء أو تكلفة مستسلمين لرغبات أسيادهم ، ومطيعين لأوامرهم .
لم يعد مهمًا بالنسبة لي تعريف من هو المثقف الحقيقي ، أعضوي كان أو هامشي ، أانبطاحي كان أم مستوِ ، فبعد مشاهد غزة ، وخروج طفل كتبت له النجاة ولم يتجاوز العاشرة من عمره ليقول" كيف أنسى كل هذا الدمار ومقتل أهلي وأصدقائي ، من يلومني عندما أكبر وأقاتل عدوي ، سأقاتل عدوي عندما أكبر " برأيي هذا هو المثقف الذي فهم الدرس بعيدًا عن كل الجامعات والأكاديميات العلمية والأدبية ، إنّ هذا الموقف لهذا الطفل هو انحياز للفطرة السليمة التي تأبى إلا أنْ تعبر عن نفسها وبشكل صحيح وسليم ، نعم هو ذاك المثقف الذي أطلق صرخة مدوية هدمت بفعل قوتها النابعة من الحق جحور هذه الفئران المتهالكة على رؤوس أصحابها ، وخالفت وبشكل صريح قوانين الطبيعة ومعها نيوتن نفسه " لكل فعل رد فعل مساوِ ِ له بل وأكثر في المقدار ؛ ومعاكس له وبمقدار لم نعهده من قبل وبنفس الاتجاه " ألم يعلمنا درس غزة هذا الدرس والذي هو مخالف لقوانين الطبيعة السائدة والمسيطرة على قلوب البشر في هذا الزمن الممتلئ بجحافل الفئران .
لم يعد يقلقني تعريف المثقف ، ولكن ما يقلقني هو استمرار البعض في تقمّص هذا الدور ، حاملًا بين ثنايا عقله وقلمه بذور الخنوع والاستسلام ، حاملًا معه رؤاه التي شبعت غربة عن واقعنا ، حاملًا معه بقايا سيوف تلك الحروب الصليبية ، حاملًا معه تلك الرماح التي حاربت في صفوف الردّة ، حاملًا معه شعارات مزيّفة تدّعي حبها وخوفها وحرصها على أمّة تذبح جهارًا نهارًا وبدون أنْْ يحرك ساكنًا ، اللهم إلا زعمه بأنّه من أنصار الواقعية والعقلانية ، في مفارقة عجيبة يبدو من خلالها أنّه الفاهم الوحيد والمكتشف لإكسير الحل والحياة الكريمة ، والفاقد لمشروعية رؤيته التي نفت عن نفسها وبشكل واضح أصالة تاريخها ، ومنبعها ، هذه الواقعية والعقلانية التي تؤدي في نهاية المطاف إلى الانجرار خلف مشاريع التهويد والتحطيم لمعنويات أمّة يعرف سلفًا أنّها لن تموت - ولكنه يكابر ليحظى بفرصة الظهور على أكتاف جرح أمّته - وغير الانبطاح ضمن صفوف رضيت بأنْ تكون جسرًا يداس فوق كرامتها - أو ما تبقَ منها - للعبور إلى مخادع الأحرار والشرفاء من أبناء هذه الأمّة ، و حصارهم وإعمال سيف الغدر في ظهورهم .
أنْ تعرف أكثر يعني أنْ تتجنب مطبات حفرت خصيصًا لتجهل أكثر ولتضيع في غياهب المعاجم الفلسفية والقانونية والفقهية والأدبية ، ولتموت و بشكل أسرع دونما فائدة تذكر ودون مبرر مشروع على الأقل بين نفسك ونفسك ، ربما يبدو هذا القول لا معنى له ، ولكن أنْ تكون مثقفًا أكثر مما ينبغي ، فهذا يعني أنْ تكون مثل ذلك الطفل الذي استوعب درس غزة ، ووضع خططًا خمسية وعشرية بل ومئوية وحتى ألفية لنا ولمن سيأتي من بعدنا ، في أول ديباجتها حروف كتبت من دم الأحرار تقول " أنْ تكون مثقفًا فهذا يعني أنْ تكون مقاومًا ومؤمنًا بأنّ النصر له ثمن ، وبأنّ الصبر على النفس خير من الموت في جحور الفئران ؛ اختناقا " .