حلم قريب الفجر
سحرٌ لا أعرف ما هو وجدته ينبعث بروحي حين مررت ذلك المساء من قرب المتجر الذي كعادتي ومنذ خمس أعوامٍ أتردد عليه ، حتى صرت أعرفه وكل ما يعرضه من مواد ، وعماله وزبائنه صاروا وجوهاً مرسومة بدقة في ذاكرتي ، إستوقفني شعورٌ داخلي ودعاني كي أكتشفه .. وأنا اردد كعادتي ايضا حين اكون بمفردي فأرافق ذاتي فيما احب من الشعر أو الأغنيات ، فأنا من الذين تستوطنهم الاشياء فلا تغادرهم الا لو أغتيل الحلم وذبحت الطرقات سفكاً على نهج الكذب :
ابعتذر .. عن كل شئ ..
إلا الهوى ..ماللهوى عندى عذر..
ابعتذر ..عن أي شي ..
إلا الجراح ..ماللجراح إلاالصبر ..
إن ضايقك انى على بابك أكر ..
ليلة ألم.. واني على دربك مشيت عمري
وأنا.. قلبي القدم ...**
وكما في كل مرة حييت تلك الفتاة casherورفعت نقاب العيون وأبقيت على الباقي وتجولت لآخذ ما أحتاجه، ومازال السحر يلفني وأشعر إن قلبي أسيرٌ لذلك المكان ولم أعرف ما هو .. أجلت نظري بين الزبائن إنهم هم كما عرفتهم إلا قليلٌ من وجوهٍ عابرة، تلك هي السيدة العجوز التي تدفعها خادمتها على كرسي متحرك لتنتقي بنفسها ما تحتاجه وترفض الخنوع لذل تقدم الشيخوخة وحاجة الآخرين التي حييتها فأدنتني منها لتسألني كما في كل مرة عن من أن أكون؟!. وهذه الفتاة غير العربية والتي تلبس زيّنا وترافق طفلها في عربة التسوق الذي يحمل كل ملامح أهله ولم يأخذ منها إلا هدوءٍ غير مسبوق في اطفال بعمره ممن اعرفهم من اهل بلدنا .وهذه خادمة عائلة بيت أبو فلان وتلك وتلك .. لا شيء يستدعي السحر والحب الذي اشعره اتجاه المكان .
مضيت ببضاعتي ليعدوا فاتورة الشراء .. فسألتني الفتاة القادمة من احدى الدول العربية والتي تتميز بجمالها وعذوبة اسلوبها بالتعامل فقالت : نقد أم فيزا كارد يا مدام ؟ فأجبت بإستغراب : كارد مثل كل مرة !!! .. فأومأت لي أن أذهب إلى الطرف الآخر فمنذ اليوم سيكون دفع الكارد عند ذلك الرجل المدير الجديد للمتجر ... ساعدتني هي للوصول إليه معتذرة بلطف .
لفني صمت غريب لم أستطع النطق بحرف واحد فكل ما املك من طاقة غارت إلى اعماق قلبي : إنه هو .. بل هو .. هو كما عرفته ، ذات العيون والمبسم كيف أتى هنا ؟ ومتى ؟، ربما كنت أتخيل، لا لم أخطأ ابداً وصدق حدسي حين رفع عينيه وهو مبتسم، إنه هو وربّي . وصار قلبي ينبض بصوت خشيت أن يسمعه !! نظر إلى يدي متعمداً وكنت قد نسيت خاتم الزواج منذ الصباح، وتبسم بعذوبة أعرفها : الكارد يا أنسة !! فعجزت عن النطق بحرفٍ ، كنت أريد اصطناع ايّ جلبة كي لا يفتضح امر نبضي وارتعاش يدي وأنا أبحث في حقيبة اليد ، سلمته إياه ويدي ترتعش بخوف لا سر له، فنظر بعيوني وأبحر بها ، حتى شعرت إنه عرفني .. نعم عرفني !! فقد قفز في عيونه سؤال رأيته ؟؟ أتكون هي ؟ أتكونين أنتِ ؟ انها بلادكِ حبيبتي أعرفها وقصدتها أملا برؤيتك صدفة .. عسى في يوم تجمعنا الطرقات .. وعادت تلك القصيدة تردد صداها
اتصدقي ...ماخترت أنا أحبك ..
ما احد يحب اللي يبي ..
سكنتي جروحي غصب ..
ياحبي المر..العذب ...
ليت الهوى وانتى ...كذب
كان اعتذرلك عن هواى ..
وماأقول أنا كونك معاي ..
أن ضايقك انى على بابك امر..
ليله ألم ...
وانى على دربك مشيت عمري
وأنا ..قلبي القدم ...
ابعتذر ..ابعتذر .. كلي ندم ..
عن كل شئ .. إلا الهوى ..
ماللهوى عندي عذر ..**
وخبأت عيوني خلف نقابي، واخذت بضاعتي وأنا أنظر له بلهفة وترقب . اسرعت للاختفاء كي لا يتابعني، شعرت بعيونه تلاحقني إلى الباب ومن خلف زجاج سيارتي وزجاج واجهة المتجر لمحت عيونه تغوص في عمق ظلمة الشارع تبحث عن طرف عباءة غادره منذ لحظات واختلط سواد الليل بسواد العباءة بسواد وحشة المكان بدون الحبيبة .. لا اعرف حقيقة السر المستسر وراء انتظاري في موقف السيارات، أرقبه، يعد نفسه للخروج، ويحدث تلك الفتاة بارتباك واضح ، وصل الباب الخارجي وجال بنظره سريعا كمن يبحث عن ولد فقده بين زحمة الأسواق، ثم يفرك بيديه ندماً إنه لم يمسك بها كحمامة فلتت من بين يديه، لمحتُ ما لا يمكن لأحد أن يراه، دمعة عاشق لاح له طيف الحبيبة وهرب ، ورددتْ القصيدة صداها في عمق روحي
الله كريم ..حبك ..يكون..
همي القديم ..
وجرحي القديم ...
والله عليم .. يا أحلى العيون ..
ان الفراق .. جزا الفراق ..
ابوعدك ..كان الطريق بيبعدك ..
بامشي بطريق ..
وكان الحجود بيسعدك ...
مالي رفيق ..
ابجمع اوراق السنين ..وأودعك..
كان الفراق اللي تبين ... الله معك .. **
فبكيت بدمعة مواساة لدمعته وبحزن يوازي عميق حزنه، وتمنيت أن أسرق نفسي من عالمي واحرك قدمي التي شلها الألم لأعدو له بلهفة .. وأضع يدي بين يديه ، وأعلمه أني ولم أخن له عهداً، عاشقة كما يعرفني ، مولعةً في الحديث معه ، حلمه حلمي ، أمنياته أمنياتي، وكلي هو كله .. ولكنه ما عاد بيدي وانتهى كل منا لطريق ..
فعاد لداخل المتجر بعد أن عجز أن يعرف أين انا ؟ وبعد أن اعان نفسه على ارتشاف دمعته، وكأي منكسر حزين جلس خلف مكتبه ..
يا لقسوتي !! أ كلُ هذا أرقبه ؟! ولكن عزائي هو دمعتي تهدأ من ألمي وتنظر له بحزن .
ما كان هذا إلا حلم قريب الفجر ... شقّ عليه التواصل صوت الآذان في عمق الهدوء، فمسحت الدمعة التي هربت من الحلم معي .. وذكرت الله .
ميــــــــنا
17/ 3 / 2008
** تنويه : القصيدة للشاعر سمو الامير بندر بن عبد المحسن