حين استدارت عربة الجيب الصغيرة الخضراء الداكنة فوق الجسر بانعطافة شديدة جهة اليمين كادت مقدمتها أن تدهس الشمس الراقدة بمنتصف الطريق لولا إن السائق وبمهارة يحسد عليها تجنب الاصطدام مما أيقظ الكلبة المذعورة – صوت الفرامل على الاسفلت وصراخها الحاد. إرتجت الأجساد النحيلة داخل العربة وإمتص كلّ منها إهتزازه حتى السكون.
السائق النحيل وبعد نجاحه في تجاوز الإصطدام بقرص الشمس عاد لهدوئه وشروده الساهم وكذلك فعل الضابط الجالس في المقعد الأمامي وبدا مسيطر على الموقف. وفعل الأمباشي عوض في المقعد خلف الضابط نفس الشئ حتى توحّد في المقعد البارد. أما الآخرون في المقاعد الخلفية وهم من الشباب ويجلسون في المقاعد المتقابلة بزيهم العسكري وأحزمتهم المذهبة حول حضورهم النحيلة فقد كانوا يشاهدون الأشياء ولا يرونها.
كانت الطيور الكبيرة البيضاء تلقى بنفسها في النسمات الصباحية الباردة وتعوم فيها برخاوة ولذة حلوتين سابحة بمحاذاة النيل تم تتجمع في خيوط بيضاء متراقصة وتغادر بإتجاه الشرق. وسط الجنود الشباب جلس الشاب الوسيم يشاهد كل ما يجري حوله بهدوء ولا مبالاة أسد في قفص وسط حديقة حيوان مليئة بالجمهور.
يجلس قبالته شابان بأسلحتهم يخرج من فوهاتها في بعض الأحيان رائحة بارود لذيذة كما تفوح رائحة التبغ المعطر من فم غليون لامع أنيق لكنها – رائحة البارود – تضيع في معظم الأحيان ثم تجيء.
ظل أنحف الجنود وأكثرهم طولاً قبالة الشاب الوسيم يرقبه بإعجاب منقطع النظير وفي نفسه تمنى لو أنهما تبادلا الأدوار ، وبالأخص حين تضئ وجه الوسيم تلك الابتسامة الساحرة الوضيئة ، تابع الوسيم سرباً من الطيور على شكل الرقم ثمانية (8) رأسه للأمام تشق النسمات الباردة فوق رؤوس الأشجار كخيط إبرة ثم إرتفع فوق النيل وغادره باتجاه الشرق حتى إختفى في لا شئ لكن الإبرة وخيطها ظلاّ يخيطان كل شروخ اللوحة.
سارت العربة على الطريق الاسفلتي المحازي للنيل شمالاً ثم صعدت التل الكبير غرباً وألقت به خلف ظهرها فحجب عنها قرص الشمس لكن فرشاته البرتقالية ظلت تلون قمم التلال باستمرار. كان كل من بالعربة يهتز باهتزازها وأن بعضهم ظل يهز نفسه حتى بدون اهتزازها.
مرت بجانب الجيب قبل ان تتجاوز التلال وفي طريقها الإسفلتي حافلة مدرسية تحمل أطفال روضة يرتدون زياً ازرق داكن بياقات وجيوب بيضاء وهم ينشدون نشيد – الوطن - ويلوحون بأيديهم الصغيرة من حين لآخر . بدأ صوتهم كجوقة عصافير تستقبل الصباح بزقزقة متبادلة كلما وجد احدهم فسبحة لصوته او لقول شئ ما ، وظل هذا الشريط يتكرر دون غيره في مخيلة الوسيم.
ظلوا جميعاً صامتين طوال الرحلة عدا محرك العربة ظل يثرثر باستمرار وأحياناً يصرخ باكياً بصوت حزين.
السائق زائغ النظرات يحمل العربة فوق كتفيه المجهدتين ويسقطها في كل حفرة تصادفه دون وعي وروحه منزلقة داخل جسده .. أسفل قدميه وهو مشغول عنها بمتابعة جنيّ يتقافز فوق التلال الحمر ، أحياناً تختلط رائحة المحرك القديم برائحة زفرة لطحالب لزجة وماء راكد والعربة تشق طريقها بين ام درمان والتلال الممتدة للأفق عبر الصحراء حتى الحدود المصرية.
ظل وتر الريح يعزف على أقواس التلال الرملية لحناً جنائزياً حزين ، لكنك لا تستطيع ان تتبين أي التلال يغني وأيها يردد النشيد ! والجنود بمن فيهم الضابط صامتين ينتعلون أرواحهم أحذية على أمل التخلصُّ منها في أيّة لحظة ، فتح احدهم فمه لكن صوته لم يخرج ، حرك الآخر أجزاء سلاحه بطقطقة معدنية فلم يلتفت إليه احد ، الشئ الوحيد الذي لفت أنظار الجميع هو صوت الجواريف وهي تحتك ببعضها وسقوط الأزمة على الجميع . لكن النحيل الوسيم ظل الاستثناء الوحيد بابتسامته الحلوة تضيئ وجنتيه الحلوتين ووجهه الحزين .
بعد أن قطعت العربة زمناً لا يدري أحداً مقداره ولا يعرفه احد – ضغط السائق ودفعة واحدة على الكوابح رائداً بذلك إنهاء المسرحية وقفز إلى الأرض قبل أن يسبقه احد ومن فوره سار باتجاه مقدمه العربة وهو لا يدري في أي اتجاه يسير.
بدأ الجميع بمغادرة العربة تباعاً ثم وقفوا بجوار بعضهم البعض. قفز الوسيم في رشاقة وسار بطيئاً باتجاه المقدمة ثم تمهل وهو يتفحص التلال مسحوراً بها ... تأملها ... فبدت كأفراد أسرة بانتظار حبيب طال انتظاره على ارض المطار وهو يتأملهم بمن يبدأ العناق؟ !
أخيراً اختار أن يبدأ بالأم – الأرض – مشى نحوها بكل شوق السنين.
لو كان بهذا الوادي نبع ماء لكان واحة تقصدها القوافل .
قديماً قالوا :- الوديان نقطة ضعف الصحراء ، مثل فم الفتاة ... ، رقيق ورخو ... ، به تبدأ المغامرة وتنتهي.
عادت العربة متبعة أثارها السابقة على الرمـال ودون أن يتفوه احدهم بكلمة ، فقط نقص عددهم واحداً ، وحين وصلوا الطريق الاسفلتي المحازي للنيل رأوا شخصاً بملامحه يعبر الشارع من أمامهم ، وحين قطعوا الكبري القديم وجاوزوه رأوه يسير على الأقدام بمحاذاة الشارع حتى انه رفع يده بالتحية وقال بعضهم انه سمعه ينادي ياسمه وبوضوح تام ، كما أنهم شاهدوه يدخل بوابة المعسكر قبل دخولهم بلحظات وشاهدوا الحرس وهم يحيونه لحظة دخوله راجلاً وهم وقوف صفاً يمني البوابة الرئيسية.
:- كيفكم يا شباب ؟!
الشي الوحيد الذي اجمعوا عليه انه ظل محافظاً على توقيت دخوله المعسكر باكراً كما كان يفعل سابقاً وكل يوم وينصرف في نفس موعد خروجه وبإستمرار .
يقول احدهم للآخر :-
الشهيد يحييك يا بطل .
فائز حسن العوض
كسلا 2009م