أحدث المشاركات
صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة
النتائج 1 إلى 10 من 15

الموضوع: الشهيد رقم ( 1 )

  1. #1
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    الدولة : السودان _ كسلا
    المشاركات : 196
    المواضيع : 25
    الردود : 196
    المعدل اليومي : 0.04

    الشهيد رقم ( 1 )

    حين استدارت عربة الجيب الصغيرة الخضراء الداكنة فوق الجسر بانعطافة شديدة جهة اليمين كادت مقدمتها أن تدهس الشمس الراقدة بمنتصف الطريق لولا إن السائق وبمهارة يحسد عليها تجنب الاصطدام مما أيقظ الكلبة المذعورة – صوت الفرامل على الاسفلت وصراخها الحاد. إرتجت الأجساد النحيلة داخل العربة وإمتص كلّ منها إهتزازه حتى السكون.
    السائق النحيل وبعد نجاحه في تجاوز الإصطدام بقرص الشمس عاد لهدوئه وشروده الساهم وكذلك فعل الضابط الجالس في المقعد الأمامي وبدا مسيطر على الموقف. وفعل الأمباشي عوض في المقعد خلف الضابط نفس الشئ حتى توحّد في المقعد البارد. أما الآخرون في المقاعد الخلفية وهم من الشباب ويجلسون في المقاعد المتقابلة بزيهم العسكري وأحزمتهم المذهبة حول حضورهم النحيلة فقد كانوا يشاهدون الأشياء ولا يرونها.
    كانت الطيور الكبيرة البيضاء تلقى بنفسها في النسمات الصباحية الباردة وتعوم فيها برخاوة ولذة حلوتين سابحة بمحاذاة النيل تم تتجمع في خيوط بيضاء متراقصة وتغادر بإتجاه الشرق. وسط الجنود الشباب جلس الشاب الوسيم يشاهد كل ما يجري حوله بهدوء ولا مبالاة أسد في قفص وسط حديقة حيوان مليئة بالجمهور.
    يجلس قبالته شابان بأسلحتهم يخرج من فوهاتها في بعض الأحيان رائحة بارود لذيذة كما تفوح رائحة التبغ المعطر من فم غليون لامع أنيق لكنها – رائحة البارود – تضيع في معظم الأحيان ثم تجيء.
    ظل أنحف الجنود وأكثرهم طولاً قبالة الشاب الوسيم يرقبه بإعجاب منقطع النظير وفي نفسه تمنى لو أنهما تبادلا الأدوار ، وبالأخص حين تضئ وجه الوسيم تلك الابتسامة الساحرة الوضيئة ، تابع الوسيم سرباً من الطيور على شكل الرقم ثمانية (8) رأسه للأمام تشق النسمات الباردة فوق رؤوس الأشجار كخيط إبرة ثم إرتفع فوق النيل وغادره باتجاه الشرق حتى إختفى في لا شئ لكن الإبرة وخيطها ظلاّ يخيطان كل شروخ اللوحة.
    سارت العربة على الطريق الاسفلتي المحازي للنيل شمالاً ثم صعدت التل الكبير غرباً وألقت به خلف ظهرها فحجب عنها قرص الشمس لكن فرشاته البرتقالية ظلت تلون قمم التلال باستمرار. كان كل من بالعربة يهتز باهتزازها وأن بعضهم ظل يهز نفسه حتى بدون اهتزازها.
    مرت بجانب الجيب قبل ان تتجاوز التلال وفي طريقها الإسفلتي حافلة مدرسية تحمل أطفال روضة يرتدون زياً ازرق داكن بياقات وجيوب بيضاء وهم ينشدون نشيد – الوطن - ويلوحون بأيديهم الصغيرة من حين لآخر . بدأ صوتهم كجوقة عصافير تستقبل الصباح بزقزقة متبادلة كلما وجد احدهم فسبحة لصوته او لقول شئ ما ، وظل هذا الشريط يتكرر دون غيره في مخيلة الوسيم.
    ظلوا جميعاً صامتين طوال الرحلة عدا محرك العربة ظل يثرثر باستمرار وأحياناً يصرخ باكياً بصوت حزين.
    السائق زائغ النظرات يحمل العربة فوق كتفيه المجهدتين ويسقطها في كل حفرة تصادفه دون وعي وروحه منزلقة داخل جسده .. أسفل قدميه وهو مشغول عنها بمتابعة جنيّ يتقافز فوق التلال الحمر ، أحياناً تختلط رائحة المحرك القديم برائحة زفرة لطحالب لزجة وماء راكد والعربة تشق طريقها بين ام درمان والتلال الممتدة للأفق عبر الصحراء حتى الحدود المصرية.
    ظل وتر الريح يعزف على أقواس التلال الرملية لحناً جنائزياً حزين ، لكنك لا تستطيع ان تتبين أي التلال يغني وأيها يردد النشيد ! والجنود بمن فيهم الضابط صامتين ينتعلون أرواحهم أحذية على أمل التخلصُّ منها في أيّة لحظة ، فتح احدهم فمه لكن صوته لم يخرج ، حرك الآخر أجزاء سلاحه بطقطقة معدنية فلم يلتفت إليه احد ، الشئ الوحيد الذي لفت أنظار الجميع هو صوت الجواريف وهي تحتك ببعضها وسقوط الأزمة على الجميع . لكن النحيل الوسيم ظل الاستثناء الوحيد بابتسامته الحلوة تضيئ وجنتيه الحلوتين ووجهه الحزين .
    بعد أن قطعت العربة زمناً لا يدري أحداً مقداره ولا يعرفه احد – ضغط السائق ودفعة واحدة على الكوابح رائداً بذلك إنهاء المسرحية وقفز إلى الأرض قبل أن يسبقه احد ومن فوره سار باتجاه مقدمه العربة وهو لا يدري في أي اتجاه يسير.
    بدأ الجميع بمغادرة العربة تباعاً ثم وقفوا بجوار بعضهم البعض. قفز الوسيم في رشاقة وسار بطيئاً باتجاه المقدمة ثم تمهل وهو يتفحص التلال مسحوراً بها ... تأملها ... فبدت كأفراد أسرة بانتظار حبيب طال انتظاره على ارض المطار وهو يتأملهم بمن يبدأ العناق؟ !
    أخيراً اختار أن يبدأ بالأم – الأرض – مشى نحوها بكل شوق السنين.
    لو كان بهذا الوادي نبع ماء لكان واحة تقصدها القوافل .
    قديماً قالوا :- الوديان نقطة ضعف الصحراء ، مثل فم الفتاة ... ، رقيق ورخو ... ، به تبدأ المغامرة وتنتهي.
    عادت العربة متبعة أثارها السابقة على الرمـال ودون أن يتفوه احدهم بكلمة ، فقط نقص عددهم واحداً ، وحين وصلوا الطريق الاسفلتي المحازي للنيل رأوا شخصاً بملامحه يعبر الشارع من أمامهم ، وحين قطعوا الكبري القديم وجاوزوه رأوه يسير على الأقدام بمحاذاة الشارع حتى انه رفع يده بالتحية وقال بعضهم انه سمعه ينادي ياسمه وبوضوح تام ، كما أنهم شاهدوه يدخل بوابة المعسكر قبل دخولهم بلحظات وشاهدوا الحرس وهم يحيونه لحظة دخوله راجلاً وهم وقوف صفاً يمني البوابة الرئيسية.
    :- كيفكم يا شباب ؟!
    الشي الوحيد الذي اجمعوا عليه انه ظل محافظاً على توقيت دخوله المعسكر باكراً كما كان يفعل سابقاً وكل يوم وينصرف في نفس موعد خروجه وبإستمرار .
    يقول احدهم للآخر :-
    الشهيد يحييك يا بطل .

    فائز حسن العوض
    كسلا 2009م

  2. #2
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jun 2006
    العمر : 54
    المشاركات : 3,609
    المواضيع : 421
    الردود : 3609
    المعدل اليومي : 0.55

    افتراضي

    جميلة وموفقة ومعبرة كان بامكانك ان تجعلها مكثفة اكثر
    تحيتي وتقديري
    فرسان الثقافة

  3. #3
    قلم نشيط
    تاريخ التسجيل : Apr 2009
    الدولة : مع من يحسبون أنهم يحسنون صنعا
    المشاركات : 373
    المواضيع : 26
    الردود : 373
    المعدل اليومي : 0.07

    افتراضي

    الكريم / فائز العوض
    رائع هو وصفك وتبايناته المتداخلة وتنقلاته ، رغم قسمات الحزن الباديه والحلل الخاصة بمثل تلك المناسبات الحزينه والسكون والصمت السائدان على المجموعه ، تنقلنا معك فى تلك البيئة فكانت وكأنها تحتفل بقدومه .
    ما أجمله تصويرك حين إلتقاء بطلك بخط النهايه ، وما أجملها تلك الزاوية التى اخترتها .، بطل ميت ،
    جعلتنى أتأمله حيا ، وبكل صدق كنت أهتز مع المجموعه داخل العربه شاخص البصر .
    فقط لو لم تفصح فى االنهاية .
    أشكرك أخى تحيتى
    مزيد من التوفيق أتمناه لك

  4. #4
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    الدولة : السودان _ كسلا
    المشاركات : 196
    المواضيع : 25
    الردود : 196
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي

    الأخت ريمة الخاني
    أولاً أشكرك أختي علي بساطة كلماتك المعبرة لفهم القصة ، مع العلم أني كتبت هذه القصة قبل سنوات ثم ضاعت وأعدت كتابتها مرة أخري من الذاكرة ، لكن أعدك إن شاء الله في القصص القادمة محاولة تكثيف كل ما أمكن فعله في تطوير وتحديث القصص خاصتي . ولكن أستدعت الظروف أن أكتب هذه القصة بشكلها الحالي خوفاً من أن تصبح قصة قصيرة جداً ، وهناك أكثر من رأي حول القصة القصيرة من حيث الطول والقصر وتكثيف الحدث ، فالقصة القصيرة هي القصة التي تقرأ في جلسة واحدة ، أما القصة القصيرة جداً فهي موجزة ومكثفة في سطور وكلمات .
    أشكرك جداً علي القراءة والذوق الفني الرفيع في مطالعة القصص والإهتمام بهذا النوع من الفنون .
    لك مودتي وإحترامي .

  5. #5
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    الدولة : السودان _ كسلا
    المشاركات : 196
    المواضيع : 25
    الردود : 196
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي

    الأخ الفاضل أحمد حاتم

    أشكرك أخي علي القراءة الحصيفة والتعليق الرائع ، فأنت رجل ذو ذائقة فنية عالية ، وقراءتك بتأني وإستمتاع وتبحث عن الفنيات والتكنيك اللذان كتبت بهما القصة مما جعل لك فهم عميق للقصة بمجملها .



    أشكرك جداً علي هذا الوصف التعليقي ، وما ذكرته عن الجو العام الذي كان يسود من حزن وسكون وصمت ينم علي خيالك الواسع في إستيعاب الجو العام للقصة والحزن المسيطر علي الشخوص لحظة قرب الموت من البطل ، والإحساس النفسي المأزوم للمرافقين ، وتصورك للبيئة المحتفلة بقدوم البطل غايةً في الروعة ، وأعجبيني الإحتفائية التي قمت بها في تصويرك لمسرح الأحداث ، فأنا سعيد جداً لأصل بك ناقلاً هذا الإحساس الجميل لدواخلك العميقة في تصنيف المفردة التي صيغت بها حروف هذه القصة .

    ( لو لم تفصح في النهاية )

    نعم هي قصة حقيقية في أرض الواقع شهدتها علي سنين مضت ، وكان بطلها رجل عسكري ( للأسف ) جمعتني به ظروف خاصة ورأيته عن قرب وصدمني خبر إغتياله ، كما صدمك الإفصاح في نهاية القصة .
    فأنا أهدي هذه القصة لروحه .

    أشكرك للمرة الأخيرة علي الإحساس الذي عشته وتفاعلت معه ، والهدف من القصة القصيرة أصلاً هو خلق أثر وأظنني قد نجحت فيه الي حد ما . لك كل الود والأمنيات الطيبة وأرجو مشاركتك دائماً في أعمالي وهنالك أعمال أخري هنا بداخل قسم القصة القصيرة والأقصوصة منها ( الشهيد رقم 4 ، المدين السمراء ، قتيل ، الطريق ) أرجو إفادتي فيما تري .
    مودتي لك .

  6. #6
    الصورة الرمزية سعيدة الهاشمي قلم فعال
    تاريخ التسجيل : Sep 2008
    المشاركات : 1,346
    المواضيع : 10
    الردود : 1346
    المعدل اليومي : 0.24

    افتراضي

    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

    الأخ الكريم فائز حسن العوض،

    أحس بالتعب والإرهاق وحرارة الشمس اللافحة وكأني كنت في تلك العربة. رغم مساحة الحزن التي

    استدعتها الضرورة فقد نقلت إلينا استشهاد ذلك العسكري بسلاسة ترغمنا على تقبل الموت بصدر رحب

    فأصبحنا نرى الشهيد حيا يسلم علينا كالمعتاد مع كل إشراقة شمس.

    احترامي وتقديري.

  7. #7
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    الدولة : السودان _ كسلا
    المشاركات : 196
    المواضيع : 25
    الردود : 196
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي

    الأخت الفضلي الأستاذة
    سعيدة الهاشمي

    تحية بلون ونكهة الياسمين وسط الغابة الصباحية المطيرة
    تعليقك علي الشهيد رقم ( 1 ) وسام أعتز به لأنه يصدر من مثقفة وفنانة بذائقة متميزة ، وهو مصدر فخر لأنك المشرفة علي قسم القصة القصيرة ، واظنني نجحت بدرجة إمتياز كما يقول تعليقك الذي لا أستطيع مجاراته لغةً وفهماً ، أعجبني جداً قولك أنني جعلتك تصافحين الشهيد كل يوم وتسلمين عليه .
    وكما يقولون أن الغرض والهدف من القصة القصيرة ( إحداث أثر ) فأنا جد ممتن لما ذكرته وأكون شاكراً لو تكرمت بقراءة بعض قصصي الأخريات في الملتقي ، ومنها ( الطريق ، الشهيد رقم ( 4 ) ، المدينة السمراء ، قتيل )
    مودتي وإمتناني وشكري لك علي تعليقك الأنيق الفهيم .

  8. #8
    الصورة الرمزية د. سمير العمري المؤسس
    مدير عام الملتقى
    رئيس رابطة الواحة الثقافية

    تاريخ التسجيل : Nov 2002
    الدولة : هنا بينكم
    العمر : 59
    المشاركات : 41,182
    المواضيع : 1126
    الردود : 41182
    المعدل اليومي : 5.26

    افتراضي


    نص قصصي مميز ، وللحق فقد رأيت فيك قدرة مميزة على التعبير بأسلوب جذاب لا يعفل رصد الأحداث والمحيط كأنه يرسم اللوحات رسما ، وكذا قدرة جيدة على السردية التي لا يمل القارئ من متابعتها. ولكن ربما احتاج أسلوبك بالفعل تكثيفا لغويا واهتمام أكثر بمستوى التعبير لتصبح قصصك في مقام عال جدا.

    أتمنى أن أقرأ لك ما هو أجمل دائما.

    وأهلا ومرحبا بك في أفياء واحة الخير.


    تحياتي
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي

  9. #9
    شاعرة
    تاريخ التسجيل : Jan 2010
    الدولة : على أرض العروبة
    المشاركات : 34,923
    المواضيع : 293
    الردود : 34923
    المعدل اليومي : 6.70

    افتراضي

    مهارة في التوصيف تحمل القارئ لأعماق الفكرة وبيئة النص، بأداء قصّي جميل ونقلات مشهدية مغرقة في الإحساس بتفصيل مائز
    بعض تكثيف كان ليخدم النص أكثر

    دمت بخير

    تحاياي
    تستطيع أن ترى الصورة بحجمها الطبيعي بعد الضغط عليها

  10. #10
    أديب
    تاريخ التسجيل : May 2009
    الدولة : السودان _ كسلا
    المشاركات : 196
    المواضيع : 25
    الردود : 196
    المعدل اليومي : 0.04

    افتراضي

    أستاذتي والأجيال
    الأستاذة ربيحه الرفاعي
    شمس الظيرة التي لا تغيب .
    أشكر مرورك الذي هو مرور
    الفراشة في حقل الأزهار !!!!
    كلماتك وملاحظاتك (أوامر)
    ونصائح سأحاول أن أكون عندها
    لأني أتعلم منك ومنها ولك كل ما
    نرجوه من تقدم لأنك موضع فخر
    لنا جميعاً
    دمت أصيلة كما أنت

صفحة 1 من 2 12 الأخيرةالأخيرة

المواضيع المتشابهه

  1. الشهيد رقم ( 4 )
    بواسطة فائز حسن العوض في المنتدى القِصَّةُ وَالمَسْرَحِيَّةُ
    مشاركات: 10
    آخر مشاركة: 10-12-2015, 05:35 PM
  2. ولد الشهيد نزار - مهداة إلى روح الشهيد نزار ريان
    بواسطة فارس عودة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 12
    آخر مشاركة: 22-11-2010, 09:46 PM
  3. الأسد الشهيد )مهداة لروح الأب العزيز الشهيد الدكتور الرنتيسي
    بواسطة فارس عودة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 8
    آخر مشاركة: 22-04-2004, 09:39 PM
  4. الحي الشهيد-مهداة لروح الشيخ الشهيد أحمد ياسين
    بواسطة فارس عودة في المنتدى فِي مِحْرَابِ الشِّعْرِ
    مشاركات: 5
    آخر مشاركة: 25-03-2004, 11:26 AM
  5. لغز شعري رقم 1
    بواسطة محمود مرعي في المنتدى حَلَبَةُ الوَاحَةِ الأَدَبِيَّةُ
    مشاركات: 9
    آخر مشاركة: 20-01-2003, 04:27 PM