الهذيــــــــان....
واقفة عند أول الدرج... تحاول رفع قدمها ...تنوء القدم تحمل ذنوب كل البشر... تئن...تحاول وتحاول... تتلاحق أنفاسها ...تحدق في الفراغ ...ترتفع القدم وتسقط كالحجر , دهور ودهور تمر, وما زالت تصعد ... تزحف, أصبحت في أعلى الدرج, باب الشقة يراوغها... يبتعد... تمد يدا مرتعشة تستجديه, تحاول التشبث والتشبث عين الجنون ...تطرق في ضعف , يفتح الباب, تصطدم بوجه أمها:
القصة بدأت بفعل مباشر وحقيقي وهذا ما ادخلنا في لجة الصراع منذ ولوجونا في عالم القصة، وعالمها هي، حيث بدا لي منذ الوهلة ان الهذيان لن تكون الا ضمن سلسلة متممة لقصة نجلا..الكحل الاسود والشبح،ولم يخيب الهذيان ظني، بل أكد على ان الانسان عندما يسطر اوجاع حياته، عليه ان يقدمها ضمن سياق انسيابي متزن،وهذه الانسيابية هنا اضافت للحدث الاساس صفة الديمومة، او ما يسمى بالمصطلح الطبي (المزمن)، لقد اخذتنا المقدمة الى عالم الشخصية الاساس، وفي الوقوف عند الدرج والصعود،اشارة واضحة للزمانية،وترسيخ لقيمة المكانية في نفس الوقت،فالدرج يمكن فهمه على انه الميحط الذي يأويها، وعملية الصعود تعني بلاشك قيمة الزمن الذي يذوب ويمضي،ومن خلال المزج المكاني الزمني ظهر جلياً الحالة النفسية لها، وقيمة الصراع الدائر، بحيث أي تفكير في الاستمرارية ضرب من الجنون الملح، لذا جاء القرار، واتخذ، ونفذ باصرار على البقاء، وربما لحب للحياة،من اجل روابط اكبر منها.
تصرخ الأم ملتاعة :
- ابنتي ماذا بك !
تنتحب... تجتر صوتها... يخرج محتضرا:
- أمــ---ااه! رأســ ..
تسقط بين يديها, تهرع أختاها على اثر الصرخة ...يشهقان في فزع... تنظر إليهم في خواء, الأيدي تمتد ... جسدها يرتفع... يسبح في الفراغ ... يغرقه الفراش, تصرخ الأم :
- الطبيب! اتصلوا بالطبيب!
ينضح وجهها بالعرق...قطرات غزيرة تتجمع على وجهها ...تلتقي ... تسيل...تحرق عينيها ...تعانق دموعا تسقط...تهطل عيناها... تجاهد جفونها, تعارك السقوط...تنتحر فوق عينيها... تتسابق أنفاسها, يتشقق حلقها...
يأتي من بعيد صوت الأم :
- يا إلهي ساعدها!
موقف درامي نجده هنا، حيث تعمدت القاصة ان تخرجنا من دائرة الصراع الذاتي، الى مرحلة ابعد، وهي مرحلة الاندماج الوجعي بالاخرين، وليس من شك بان الفتاة كطبيعة تميل الى الام،وهنا جاءت اللحظة التي تظهر فيها القاصة انتمائها الذاتي،وتبرهن من خلال النص مشكلة ذاتية ربما اثرت كثيرا على مسار حياتها، حيث صرخة، تجابهها هنا مباشرة في البوح بما يحدث للبطلة جسديا، مع التماهي لكشف حقائق اخرى ربما هي المسببة للالم المباشر،فالصداع انما نتيجة حتمية لامور اخرى تسبقه، بل تؤثث وتمهد لمجيئه،وفي لمحة جميلة تظهر لنا القاصة الحالة النفسية للام وهي ترى ابنتها تسقط بين يديها،ومن ثم تظهر نجواها ودعواتها من اجل ان تمر المحنة هذه على ابنتها بسلام، اما هي فتعيش حالة اشبه بالغيبوبة،لان الهذيان وحده هنا لايكفي لاظهار الصراع الداخلي لها.
قطارات تعوي في مخها... مطارق تهوى على عقلها ... مخها يذوب ... خلاياها تحترق ... عضلات جسدها تتشنج ... تنقبض ملامحها في ألم ... تقبض يديها, تسحقهما ... تنطلق صرخة من رحم ألمها ... فتنتحر في حلقها ... تبتلعها ... تهدر في أعماقها ... يبدأ الغليان ... جمرات تسرى في دمائها ... القلب يقفز من صدرها .... فيصطدم بسماعة الطبيب ... وأصوات بعيدة :
- إنها النوبة .
- ألا يوجد علاج لهذا الصداع النصفي ؟
- للأسف لا , فصداعها النصفي عصبي مزمن .
هذه الحوار في رأي كان يحتاج الى تعمق اكثر، ورؤية انضج، لكنه يدخلنا عالم الهذيان الذي استمد عنوان القصة منه، فهذا الهذيان هو المحور للولوج في المرحلة الاكثر صخباً، حيث اظها العلة وعدم وجود علاج لها امر يحتاج الى تركيز اكثر وليس المرور عليه،لان مسبب الهذيان الذي منه نلج في غيابات القصة.
تحاول النظر ... الوجوه تتراقص ... وجه يقترب منها ... كان يوما يشبه وجه أمها, ملامحه منبعجة مضحكة ... تهمس في خفوت متعجبة :
أماه ماذا بكِ ؟ هل أنتِ مريضة !؟
ثم تنطلق تضحك في هستريا ... تموت الضحكة فجأة ... يولد صوت الطبيب:
- لقد بدأت تهذي أحضروا بعض الماء .
كما اسلفنا هنا تكمن العقدة الاساسية والتي هي مخاض طبيعي للحالة الذاتية، فالهذيان امر محتم، والصداع النصفي مسبب، والصراع النفسي الداخلي ومن ثم الخارجي كان التمهيد،وجملة هذه الامور تخلق الواقع المُرّ،وهذه الوجعية التي تظهر لنا من خلال المعاني، لها مغزى ميتافيزيقي على البعدين الزمني والمكاني، لانه يستمد وجوده من روافد عديدة، ربما تاريخية، واخرى فكرية، واخرى واقعية،واخرى غيبية،حيث اجتمعت الروافد هذه على دفع حالتها جملة وتفصيلا الى الخوض في سبب المعاناة هذه..وعلى ايجاد اسباب ودواعي الاستمرار على البقاء ضمن دائرته، وهنا تاتي لحظة الحسم النهائية، أم البقاء اراديا تحت وطأة مسبب الوجع، او اتخاذ القرار الحاسم لفض الشراكة بينهما، لكن يجابها ضعف في الااردة،لذا الضحكة تموت.
صدى الصوت يتردد من بعيد ...يخفت... يخرج الصدى... يدخل الماء ... يملأ أذنيها ... تبتعد الظلال ... تخور الأجفان مرهقة ... مازال الماء يقرقع ... ينساب... ينساب إلى رأسها ... جسدها يطفو ... تصارع في بحور ألمها ... دوامات تسحبها لأسفل ... تحاول رفع جسدها ... تصارع يغمرها الماء... تكتم أنفاسها ... ينفجر صدرها ...تشهق تفتح عينيها... ظل يجثم فوقها :
- اشربي بعض الماء.
تتجرعه, يعاود الظل الهروب, وصوت يغرق فى بحر بعيد:
أطفئوا نور المصباح فالضوء يضاعف الألم.
تحتضر الشمس... يخرج الليل من فجوة في النهار.. تعدو على أشواك في دروب مظلمة... أشجار الطريق تتجسد أشباحا تحمل وجوها دميمة تطاردها ... وهى تطارد الريح ... تتعثر... تسقط... تدميها الأشواك... تنزف... تكبلها الظلال, وصوت يأتي آمرا مقيتا:
- مزقوا وجهها ... ضحكات شامتة تتردد ... تمتد أيدي خنجرية تسلخ جلدها ... تصرخ فى رعب, تصرخ تصرخ :
- لا لا .
تنتفض وهى تصرخ :
- لا لاااا
هنا تبرز سمة الانا،في المعاناة والصراع الدائر بين البقاء واللابقاء، البقاء ضمن دائرة القنص والوجع ،ام الفرار منه، وليس الامر بسهل اذا لامسنا من خلال هذا التعلق وجود عوامل لاتسهل عملية اتخاذ القرار، كالبيئة والمحيط الاجتماعي، وربما امور اخرى تخص العلة والمعلول معاً،ولقد بدا لي وكأن القاصة هنا تحاول ان ترفع من وتيرة الانفعال الداخلي للبطلة، ربما لانها شعرت بأن القصة تحتاج الى دفعة اقوى للتوجه نحو نهاية مرضة، لذا نجد صفة التمزيق، هنا تباشر الى الوجود وكانها صفعة على وجه القارئ، تطالبه بعدم التغافل لحظة، عن النظر الى الاشكال الاساسي في المحنة القائمة.
تمد يدها .. تبعد فى خوف يدا عن وجهها فيأتي الصوت:
-حبيبتي إنها يدي , تمسح العرق عن وجهكِ.
تعود الغرفة ... ويعود الفراش ... وتعود الوجوه ... تحدق عاجزة .. منهكة ... تجتر أنفاسها .. يأتي نفس الصوت في أسى:
الحمد لله .. أفقتِ ابنتي ثماني ساعات كاملة يا لكِ من مسكينة حبيبتي!
تنظر إليهم ... يترقرق دمعها ... تتنهد:
- اتركوني وحدي.
يتبادلون النظرات ... ينصرفون باستسلام ... صوت الباب يصفعها ... تتنهد ... تطلق زفرة ... تتحرر دمعة حبيسة ... تبتسم في مرارة ... تنتظر النوبة القادمة ... تنتظر الهذيان.
وصل الصراع الى اوجه داخل الذات، وبدت الامور اوضح للام ولها، والصادع ربما كان مجرد مدخل لشكف هذه الحقائق التي لابد وانها تظهر ذات يوم وبصورة ادق واكثر تفصل،لذا انتهت رحلة المخاض الاساسية للصداع برؤية للحالة وللاشكال، والاحساس بالموجودات اصبح فاعلا، أي عبور مرحلة الهستريا، والغوص الان في المرحلة الحسية، وهذه المرحلة تتطلب رؤية اعمق، ودراية اكثر بالوضع الراهن، والتفكير بالاتي، لان الحدث الاساس يقودنا في الاصل الى الاتي واعتبار الماضي رهن الاقامة الجبرية،وهنا تتداخل المعاني الاستدلالية المعبرة عن حالة سايكولوجية بحتة،مفادها ان ما اصاب القلب من وهن بسبب تتوالي الصدمات قد يجعل القلب رهين الهواجس،رهين الوجس ايضا،فكل تخيل لهزة ربما يكون اكثر تاثيرا من الهزة نفسها.
لقد ابدعت نجلا..في وصف حالة نفسية ذاتية، واستطاعت ان تنقلنا الى عمق الحدث،بلغة سهلة، وبسرد دقيق متقن، وبالفاظ منتقية،ذا معزى دلالي احتمالي.
تقديري ومحبتي
جوتيار