صفحةٌ من طُفولتي ( 3 )
بقلم / ربيع السّملالي
(( لاَزَالتْ ذَاكِرَتِي تحتَفِظُ بالكَثير الكثير منَ المواقف التي كنتُ أمرّ بهَا وأنا أسيرُ في دروبِ الحياة ، وأمضي في أزقّة الأيّام ..، فأتبسّم من بعضها وأكاد أبكي من البعض الآخر ..))
عندما كنتُ أدرسُ في الابتدائي ، كانَ يدرّسُنا في المستوى الرّابع معلّمٌ شرس الأخلاق زعرورها ، وكانَ ذا هيئة تشي بالكبر والغرور والصّلف ، طويلَ القامة ، فاحمَ الشّعر ناعمَه ، جاحظَ العينين ، واسعَ المنكبين ، قمحي البَشْرَة ، وله عنقٌ طويل أشبه ما يكون بعُنق واصل بنِ عَطَاء المعتزلي ...
كنتُ أكرهه ، أبغضه ، أحقدُ عليه ، ولستُ وحدي في هذا بل جميع الأطفال الذين كانوا يقبعونَ تحتَ تمرّده وتجبّره في ذلك الفصل ...
من الأخلاق الخبيثة التي كان يتمتّعُ بها هذا الإنسان ، والتي جعلتنا نُسْرِفُ في كراهيته ، والتي لازالت راسخةً في أعماقي إلى الآن ، ولم تستطع أنْ تَمْحُوَها السّنونُ ، شتمُه المتواصلُ لنا على كلّ صغيرة وكبيرة ، وجدفه على الله بصوتٍ صارخٍ ، وبطريقة وحشية جاهلية ، تستفزّنا وتطعن في ديننا ...وأمّا لعنُ أمهاتِنا وآبائِنا وأجدادِنا فحدّث ولا حَرج ، وثالثة الأثافي أنّ الأطفالَ المشاغبين كانوا يحاولون تقليدَه عند خروجهم من المدرسة ، فكلّما واتتهم الفرصةُ للمشَاجَرة مع الأطفال انهالوا عليهم بسيل من السّباب والشّتائم التي لقّنهم إيّاها المعلمُ الذي كاد أن يكونَ رسولاً !!
وعندما ينادي أحدَنا لا يناديه باسمه أو نسبه بل يناديه بأخبث الأوصاف ، وأقبح الألقاب ...
لم نرَهُ مبتسما ، باشّاً ، ضاحكاً في وجوهنا قطّ ، وهو يُدرّسُنا ، بل كان عبوساً منقبضاً متجهّماً على الدّوام ... وكنّا نراه منبسِطا ، منشرحاً ، مسروراً ، وراضيا عن حياته كلّ الرّضى وهو برفقة صديقاته المدرّسات ...
وكانت له عصا غليظة يهوِي بها علَى جسَد ورأس ومؤخرة كلّ من تسوّل له نفسُه الالتفاتَ إلى وراء الصّف ، حيثُ يكون جالساً جلسَةً غيرَ بريئَةٍ مع إحدى رفيقاته المعلّمات المتبرّجات السّافرات ...
وهنا لابدّ أن أقول : لولا النّظرات الهادئة المشرِقة التي تَمُنّ بها عليّ محبوبتي الصّغيرة في دَرْبِنا كلّ صباح والتي تبعثُ الأملَ والحياةَ والخلودَ في أعماقي ، في وجداني ، في فؤادي ، لدرجة أنني أنسى معها المعلمَ والمدرسةَ والكونَ بأجمعه ، لولاها لهجرتُ المدرسة ، والبيت ، والحيّ والمدينة آنذاك من أجل هذا المعلم القَذِر ..ولكنّ الحبّ الطّفولي البريء يفعل المستحيلات ...
ومن المؤسِفِ حقّا أنّ أولياء و آباء التلاميذ إذا سألهم أحد عنّ أبنائهم أين هم ؟ يقولون لهم بزهو وافتخار : ذهبوا للمدرسة ، للدّراسة ، للتّعليم ، لكن الصّحيح أن يقولوا لقد ذهبوا ليُجدّدوا الرّحمة على آبائنا وأجدادنا بسباب وشتائم معلّميهم ... ( إلا من رحم الله ) .
29 / 12 / 2011