البــــــاب الأزرق
يجلسون في زمر صغيرة، يسامرون ليلا صيفيا طويلا و القمر ينير سماء صافية، يتبادلون أحاديث عادية، يدندنون ألحانا و أغاني، و تعلو ضحكاتهم بين الفينة و الأخرى…
منهم من يعدون وجبات للأكل بسيطةً يتقاسمونها، و آخرون يطوفون عليهم بأكواب من (الشاي)، و منهم واقفون يدخنون تبغا رديئا، ومنهم من يستمتع فقط باستراحة هادئة لم يسبقها أبدا عمل مضنٍ…
رجال كلهم بملامح باهتة… في زنزانات مشرعة الأبــواب، غير موصدة، بلا أبراج للمراقبة أو أسلاك شائكة…
مساجين هؤلاء إذن! و سجانهم هناك قبالتهم، يجلس في العـراء، صامت يراقب ترقرقَ الماء تحته و يراقبهـم..
لا يتكلم و لا يسمح لنفسه أن يشاركهم شيئا... و خلفه جدار واطئ، له باب حديدي لا يعرف أحد جدواه… الباب أزرق غير محكم الإغلاق، و وجوده هناك يثير فضول الحارس، لكنه لم يحاول يوما فتحه.. رغم أن عيون الرجال لا تنفك تتأمله بشغف، و هم يشيرون إليه في أحاديثهم.
للحارس حكاية صمت طويل… يمضي جل وقته سارحا في خيالاته، قرب جدول ماء لا يُتعب تفكيره ليفهم من أين منبعه، و لا أين مصبه.. يكتفي بالجلوس على صخرة و رجلاه مغمورتين بالماء الذي يجري عذبا زلالا.. يراقبهم و يتتبع حركاتهم، و يتساءل في نفسه: من هؤلاء؟ و ماذا يفعلون هنا؟
و ما هذا المكان! جدران قصيرة و ماء في غير محله وغرباء.. و صمته لا يجدي في الإجابة عن أي سؤال: يحرسهم أم يحرسونه!.. و هل حقا يحتاج هؤلاء حارسا لهم؟.. فهم مستسلمون جدا لسجنهم! لا بل هم به سعداء، هادئون في غرفهم المفتوحة على السماء، يتجولون بحرية تامة في أرجاء المكان، و لا يعيرون وجوده اهتماما…
كان الوقت فجرا، حين تعالت أصوات المآذن في الجوار.. أصوات تكسر رتابة الليل وتسحب بعض الحالمين من أحلامهم.. و لا يبلغ صداها من أفرط في السهر منهم.. يكتفون بمداعبة نوم لذيذ تحت سماء حالمة...
هب معظم الرجالِ النائمين، يتبادلون تحيات صباحية و ضحكات شبه ناعسة، يكشفون عن سواعدهم و يتواردون زرافات على الجدول، لكل واحد منهم إناء يغرف به الماء للوضوء..
والحارسُ الساهرُ ليلُه.. المطبقُ عليه صمته، تعفيه السماء من الأحلام و تغرقه في خيالات ترتسم على وجه الماء - حين ينكسر على صفحته نورُ القمر- و قد اكتحل بالأزرق و تحمم بغبش من الفجر… استجمع شيئا من حضوره و كأنه يهم بالوضوء لكنه لم يجد له آنية، فتقدم إليه أحد الرجال و ناوله إناءه بعد أن فرغ منه… استلمه منه دون أن ينبسا بكلمة و شرع يتوضأ و الغريب يراقبه و يبتسم.
اصطف الرجال للصلاة كأنهم في مسجد أُسس بنيانه في العراء… إلا الحارسَ وقف إلى يمينهم و آثر أن يقيم صلاته وحده، و تفاجأ أنه اتخذ الباب الأزرق قبلة له، دون قصد منه، و حينها أدرك أن الأسئلة التي تحيره ستفسد عليه خشوعه، فصلاته - مهما حاول - لن تمنعه من التفكر مرة أخرى في جدوى الباب… لكن قد فات أوان تغيير القبلة…
أنهى الرجال السجناء صلاتهم و بسرعة انفضت الصفوف وراحوا يتبادلون أحاديث الصباح، و يتجولون في المكان فرادى و جماعات، كأنهم يستعدون لعمل ما..
و عاد الحارس لصخرته و خيالاتِه التي تسمرت تنتظره على وجه الماء..
و ما إن سرح قليلا حتى سمع صراخا و جلبة: " أوقفوه! أوقفوه! أغلقوا الباب الأزرق!".. ذعر الحارس و انتفض من مكانه يجري.. كان الباب مشرعا ورجل يقف على عتبته، هو نفسه الذي أعطاه آنية الوضوء.. ومرة أخرى كان يبتسم ملء وجهه و يرمقه بنظرة غريبة تشع فرحا و جلالا.. و ما إن وصل إليه حتى اختفى خلف المجهول...
تنازعت الحارس مشاعر الخوف و الدهشة و حيرةٌ طاغية، التفت إلى الرجال فاذا هم ينصرفون واحدا تلو الآخر.. منهم من يتأسف و منهم سعداء يتبادلون التهاني و يثنون على شجاعة صديقهم، و سمعهم يقولون: " لقد فعلها.. اجتاز باب الحرية الأزرق"
تعاظم فضوله و تناهشته حيرته و خيالاته و هو يحاول أن يفهم إلى أين يؤدي هذا الباب، فأطل برأسه من خلاله… و بسرعة تولى مدبرا بعد أن أحكم إغلاقه... و عاد لصخرته… و دهشة كبرى تعتريه.
هـــاوية سحيقة خلف الباب الأزرق، و ظلام و ظلال… جلس هذه المرة على صخرة أخرى ليتجرع حقيقة أغرب من كل خيالاته و ما عاد يحفل بالماء.. بعد أن اكتشف أخيرا أنه حارس لسجن في سطح بناية شاهقة...
لكن دهشته الكبرى كانت سؤالا كاد يكسر صمته الطويل بعويل و صراخ: لماذا كان صاحب الإناء يبتسم و لماذا يسمونه باب الحرية الأزرق؟!