وحدها الأحلامُ لا تشيخ، ذلك أنها لا عمرَ لها.. إنها المخلوقةُ من بياضٍ شاسع لا حد له...
لا تصدقي أبدا أننا نصير أيتاما فقط متى فقدنا آباءَنا، فنحن كثيرا ما نمتلئُ يُتماً في هذا الزمن البارد، حتى ونحن نعودُ مساء لنلتفَّ حول مائدة العشاء.
كصبيةٍ فقدت أباها وظلَّت واقفةً بشُرفة انتظاره، وكرَجُلٍ أحاولُ أن يمُرَّ بكِ العيدُ كأنَّ أباكِ حاضرٌ ملءَ المكان، ملءَ فرحكِ، ملء عينيكِ وقلبكِ وأصابعكِ التي تتحسسُ صورَه واحدةً واحدةً برجفةِ حنينٍ.. دعيني في هذا المساء أَكُنْ أكثرَ من خالد، دعيني لأعايدَكِ كأنني أُشبِه أباكِ، أو كأنني أحملُ شيئا من تفاصيله.. دعيني أُقَبِّلُ يدَ أمكِ الشريفةِ الطاهرةِ كأنني أحدُ أبنائها الذين أنجبتهم دون أن تنجبني تماما.. دعيني أحضنكم جميعا، فقط حتى أحفَظ عيونَكم، وأشربَ نبضَكم، وأصغي إلى كل ما لا تسعفُنا اللغةُ في قوله...
على ذكر الصور، قبل أيام عثرتُ على صورةٍ لكِ وأنتِ بعدُ طفلةٌ بالمدرسة. اندهشتُ كثيرا، كأنكِ لم تكوني طفلةً يوما، وسألتُ نفسي: متى غادرتِ الطفولةَ نحو امرأةٍ ظلت تقبَعُ داخلكِ كمارد المصباح السحري؟ أحقا هذه الأنثى الطاعنة في الإغراء والرُّشد بشكلٍ أنيق، كانت طفلةً هكذا؟
أذكرُ شَعركِ بقَصةٍ ذكورية دوما وشريطِ زينةٍ يَلُفُّه. لم أَرَكِ يوما بضفيرتين كالمدللات اللواتي دَرَسْنَ معكِ، ولا بضفيرة واحدة كاللواتي لم تمتلكْ أمهاتُهن وقتا إضافيا أو مزيدَ مالٍ للاهتمام ببناتهن أكثر، لطالما كان شَعرُكِ بسيطا وسهلا ومُريحا لكِ ولأمك أيضا.
أمك.. آه يا أمك...
أرأيتِ قبلا رَجُلا كاد يمُرُّ حُذَاء سيدةٍ واقفةٍ كنخلةٍ ليُقبِّل رأسَها دون استئذان، فقط لأنه اكتشف أنها تُشبه أمَّه؟ أكُلُّ النساءِ سواء؟ قطعا لا.. لكن في حضرة أمومتهن، كلهن سواء. كوني مطرا وتساقطي على يديها، ذلك أنهما تستحقان هذا وأكثر. تلك امرأةٌ فيها شيءٌ من أمي، شيء من أنثى ما زالت بانتظاري في مكان ما حتى آتي وأتزوجها، شيء من طفلتي التي لا أدري متى تأتي إلى هذه الدنيا لأعْرِفَ معنى الأبوة بها وأخافَ عليها وأفرحَ لها وأحزنَ معها وأشيخَ دونها، مثلما فعلت بكِ، عليكِ، لكِ، معكِ ودونكِ... ذلك أنكِ ابنتي وحتى وإن ما كنتِ ابنتي حقا، حتى وبطاقةُ هويتكِ تحمل اسمَ رجلٍ آخر، هو الغائب الذي تتشبثين به، لا أنا الذي أتشبثُ بكِ.
عيدٌ إذن، وها نحن في محطةٍ جُعِلت للسفر، لا للأسئلة.
وفي هنا كما في هناك الناسُ يتقاطعون جيئةً وذهاباً على عجلٍ كأنه السَّفَرُ الأخير، ولذا كان لابد لي من البقاء وحيدا على مسافة منكم كي أرعاكم بعينَيَّ.. فقط بعينيَّ.. ذلك أنه رغم كَمِّ الخوفِ الذي يعصفُ بي كلما فكرتُ في غيابكم، لا أملكُ سوى انتظار الحافلة بنفس ترقُّبكم وتوتُّركم ودعواتِكم السرية أن يمُرَّ الوقتُ سريعا، كأنني أنا المسافرُ لا أنتم. ما بين البنفسجي والبني والأصفر والتربيعات ذات الأبيض والأزرق الخفيف، ما زلت أسأل نفسي باندهاش: كيف أستطيع تذكر كل تلك التفاصيل بهذا الشكل؟
ذاتَ روايةٍ قرأتُ مرة: مأساتُنا في الحب الكبير أنه يموت صغيرا بسبب ما نتوقعه الأقَلَّ. بشكلٍ ما أجِدُ أنها جملةٌ تصلحُ لكل أمرٍ في هذي الحياة، ففي غُمرة انشغالنا بالماضي المهم ننسى حاضرَنا الأهم. ها أنذا أحِسُّ بالسؤال ذيَّاك يراودُكِ بإلحاحٍ يبرِّرُه جنونُ كلماتي وفوضاها: لماذا يُخبرني كلَّ هذا بَدَلَ أن يُعايدني كما يفعلُ النَّاسُ عادةً بكلمتين لا غير، أتُراه نَسِي كيف يقولُ "مبروكٌ عيدُكِ"؟
وها أنذا أجيبُكِ: الحزنُ هو كل ما نحتاجه كي نُقنِعَ الآخرَ بأهميتِه لنا، فمن لا يأبَه لكِ في حزنِكِ، لن يأبه لفرحكِ، وأنا أهتم لكِ، أو لِأَقُلْ بأني أريدُ أن أفعلَ هذا، وهذا لا يكون صادقاً إذا استثنيتُ حزنَكِ من دائرة انشغالي بكِ. لابد لحزنِكِ أن يصيرَ حزني أنا كذلكِ، لابد أن أقاسِمَكِ إياه، لابد أن تُحِسِّي هذا وأن تقتنعي به، ساعتَها فقط ربما تُدركين أنَّ مُعايدتي لكِ بغيرِ حُزن هي ضرورةٌ اجتماعيةٌ ومجاملةٌ ليس أكثر، وليست معايدةَ أبٍ لابنتِه...
عيدٌ إذن، وها أنذا أسُوقُ لكِ الوصايا وقتما يتبادلُ الآخرون الهدايا، ومعي لاشيءَ سوى كلماتٍ.. كلمات. بين التذكرِ والنسيانِ تعَوَّدي الوقوفَ دون تطرُّفٍ نحو أحدِهما، إنها المنطقةُ الوحيدةُ الآمنة.
في غيابه تذكري دوما أنه لم يَخْتَرْ، وأنَّ الموتَ ظلَّ الوجوهَ الستةَ لنردِه يومَها، فهل كان له أن ينجو؟
في غيابِه تناسَيْ قليلا أنه غائب، حتى تدركيه وحواسُّكِ عاجزةٌ عن ادراكه، حينها حتما سأفقدُ شرعيتي وأصيرُ مجرد صديق، وتبقين رغم هذا ابنتي...
في غيابه تذكري أنه لا ينامُ حتى تنامين، حتى ينام إخوتُك، حتى تنام أمُّك... وثقي بي، ما الموت سوى نومٍ مجازي بالنهاية، الفرقُ بينهما أنه في النوم نرى ونسمعُ مثلما يفعلُ غيرُنا، أما في الموتِ فيجبُ علينا فعلُ هذا بما لا يستطيعُه الآخرون.. فقط تلزمُكِ حاسَّةٌ سادسةٌ، وإيمانٌ بالحقيقة، وجرأةٌ واثقةٌ كي تهمسي لهُ "حتى وأنتَ هناك.. فأنتَ هنا.. هنا".
في غيابه تناسي أن الموتى لا يعودون، وصدقي أنهم يفعلون... صدقي تماما أن أباك يعودُ كل ليلة. هو الذي تعَوَّدَ أنْ ينفُضَ عنه ترابَ الغيابِ ويأتي خُفيةً ليَمضي وقتَه جالساً بعينين مُشرعَتين مُتأمِّلا جمالَ عينيكِ مُغلقَتين هكذا في سلام... يأتي كي يَرُدَّ عليكِ إزاركِ ويُحكِم إغلاقَ نافذتَكِ خوفا عليكِ من نزلة برد... يأتي كي يَحكي لكِ حكاياتِه المؤجَّلة التي لم يمنحه الموتُ فرصةً أخيرةً ليتقاسمَها معكِ... يأتي ليطبَعَ على خدِّكِ قُبلةً مُكذبا موتَه، مكذبا حدسَ الآخرين بأنه لن يَعودَ، مكذبا كلَّ منطق. فعلام يفعل كلَّ هذا؟ فقط حتى تُخبره عيناكِ أنهما مُشبعتان بالفُقدان بعده، مشبعتان بالحُزن عليه، مُشبعتان بخواء لا أحدَ غيرَه بإمكانه ملؤه؟؟؟
تدرين أمرا؟ ما يقتل الآباء حقا ليس الموتُ، وإنما اكتشافهم أن لأبنائهم في الحياة رصيدا ملغوما بكآبةِ القلوبِ وضياعِ الأمنيات. اكذبي ولو قليلا.. عليه.. عليَّ.. عليكِ.. وواصلي الإدعاء أنكِ بخير، حينها فقط ربما يصير بإمكانكِ الرؤية بعينين مغمضتين. هل أنت حقا.. بخير؟
لا يرحلُ البَحَّارُ إلا إذا ضاقت المرافئ به. فلنكن أصحابَ ذاكرةٍ لا ساحل لها، فقط كي يظلَّ معنا، حتى وإن كان يواصلُ الاحتفالَ بعيدِه بعيدا بعيدا عنا، هناك حيث لا نستطيع التواجدَ نحن الأحياء.
عيدٌ إذن، وها أنتِ ابنةٌ واحدةٌ لرجلين...
مبروكٌ عيدُكِ..
رعاكِ الله