الطَيّر الخُدَارى
حكايات جَدّتي))
فى واحةٍ وسط الصحراء، تحفها أشجار النخيل الباسقة، وبساتين الفاكهة، والأعشاب تكسو الأرض بخضرة
زاهية. والمياه تتدفق من الينابيع، مكونة الغدير، الذى تؤمه فتيات الواحة، لجلب الماء. بجرار يحملنها على رؤوسهن. ويغسلن الملابس، ويسقين الحيونات التى تدر لبنا وفيرا مكونا غذاءا أساسيا للأهالى. وذلك لوفرةالماء الزلال والعشب. كان أهل الواحة سعدين فى حياتهم. بما وهبهم له الله من نعيم وزرع وضرع متعاونون يوقرون كبيرهم ويرحمون مريضهم. يعطفون على صغيرهم. يحفظون غائبهم فى ماله وعرضه حتى يعود. كانت واحة الغدير مثل الفردوس. آمنة لاتخوض حروب مع القبائل وترعى العهود والمواثيق بينهم.
فتاةٌ تدعى شمايل تختلف عن فتيات الواحة، عندما يأتين الغدير تجلس بعيدا، تتأمل التلال الرملية المحيطة بالواحة ويلح عليها الفضول لترى خلف تلك التلال، الجاثمة بين تلك الشجيرات الجافة. وتحاول دائما الخروج من الواحة بمفردها لتستكشف عوالم أخرى قابعة فى أحلامها الوردية.
ذات يوم من الأيام تركت شمايل الفتيات وتسللت خلسة. صارت تمشى وتمشى وتمشى.. مبتعدة، ولم تشعر بانها قد ابتعدت عن الغدير، مسافة طويلة كان يدفعها الفضول للوصول لتلك التلال البعيدة، فقد كانت تراه قريبة يخدعها السراب، فكلما تقدمت الى الأمام، ابتعدت عنها التلال، ولكنها لم تتوقف إلا بعد أن بلغ بها التعب أشده. فجلست لتستريح فنامت. عندها توارى قرص الشمس خلف التلال واختفت أشعتها الذهبية وتلون الأفق بالأحمر والأصفر والبرتقالى. استيقظت خائفة، مرعوبة، وقد حل الظلام فهرولت تسابق الريح صوب الواحة فقد يئست من الوصول للتلال. ولكنها ضلّت الطريق وصارت تسرع الخطى هنا وهناك متخبطة لاتعرف الأتجاهات. وقد تملكها الخوف والصمت قد خيم على الصحراء، وأكتست الصحراء بسواد الليل الحالك. جلست تحت الشجرة الجافة، وتوسدت يدها ودموعها تنهمر بغزارة.كانت الأحلام المزعجة توقظها بين الفينة والأخرى. وشاركتها الحيونات البريّة سُكون الليل، الأرانب البرية والضب الخلوى والحشرات تتحرك كاسرة صمت الليل، بهسيس، وفحيح ومواء و تتريب...
أصبح الصبح، وهى فى توهانها لم تعرف لطريق العودة سبيلاً. فجلست تبكى وتصرخ وتردد الصحراء صوتها لامجيب. غير طيور تهيم نهارا، وتحط فى أعششها ليلا فوق الشجرة، التي اتخذتها مسكنا لها. كلما مرت قوافل الإبل، كالأشباح تقطع الفيافى، ذهابا وإياب ،وكلابهم خلفهم. تهرول شمايل نحوهم وتصيح وتلوح لهم وتسير القافلة دون الإلتفات اليها.
كانت تجلس وتبكى وتنشد قائلة لقوافل الأبل :أبّاله هيى أبّاله هيى.....
كلموا.. أمى.. وأبى .
قولوا لهم شمايل الغالية
كانت تحب البادية
والحياة الهادية
والطيور الشادية
ياأبّاله هيى ..هيى.... رجعونى لأمى وأبى.. ووإخوتى ومَرقدى
وتنخرط فى البكاء حتى جفت دموعها. ويئست من العودة. وندمت على مفارقتها للواحة والحياة الرغدة.
كان الطيّر الخُدارى، يحط فوق الشجرة التى تجلس تحتها ويستمع لنشيدها، ويحنو عليها فيطير محلقا فى البوادى و الواحات ويعود ليلا ليجدها نائمة، فيضع لها ثمار النخيل، فتصحوا وتأكلها وتنظر الى الطيور شاكرة. ذات يوم جاءت القافلة، تسلك طريقًا على مقربة من شمايل، فقفزت وصاحت: ياأبّاله... ياجمّالة فلم يلتفتوا اليها. فطار الطيّر الخدارى نحو القافلة وصار يصدر أصواتأً، وصيحات، لفتت نظر الرُكبان فتبعوها حتى وصلوا الشجرة التى تجلس تحتها شمايل صاح قائدهم:
ــ هل أنت من الأنس أم الجن؟
ـــ أنا إنسيّة اسمى شمايل من واحة الغدير
ــ ماذا أتى بك؟هل تركك أهلك هنا..
ــ كنت أتجول ولم أعرف طريق العودة فى متاهات الصحراء فقدت طريقى
حُملت شمايل على ظهر البعير. وساروا بها نحو واحة الغدير. عندما وصلوا الى مشارف الواحة أنزلوا رِكابهم، وعقلوا إبلهم .وأرسلوا مرسالهم، الى شيخ القبيلة يستفسروا، إن كانت لديهم فتاة مفقودة. هرع أهل الواحة نحوهم بالترحاب. ونحرت الذبائح وأطعم الجميع . وغنت ورقصت الفتيات بعودتها سالمة .ورحلت القافلة فى مسيرتها.
نظر والد شمايل اليها معاتبا لهاعلى تهورها وإبتعادها بمفردها وقال ناصحًا لها :إ ن الذئاب تأكل الأغنام القاصية، فلا تفارقى الجماعة.. وتبتعدى فيسهل مهاجمتك. لولا لطف الله بك ودعواتنا لهُلكت فى الصحراء.
بكت شمايل كثيرا على تصرفها وماجلبته من متاعب لأهل الواحة السعيدة، وأقسمت على نفسها الا تفارق فتيات الغدير والحياة الرغدة فى الواحة. و تنساق وراء فضولها وأحلامها المستحيلة.