عبد القادر رابحي
وسلطة الكلمة
إليك رابحي
حتى نحطم أسطورة " مطرب الحي"
صباح لخضاري
الكلمة بدء و حياة، الكلمة موت و نهاية، الكلمة بعث؛ الكلمة خير و جمال، شر و قبح، قوة و سلطة، قهر و جبروت؛ كما أنها أسر و جذب و دهشة؛ تحمل المتناقضات وتشكل في ذاتها تشاكلا وتباينا، لاعبة لعبة الهدم والبناء، مؤسسة سيرورة الدلالة اللانهائية المكثفة الظلال، تجرح وتكسر بانزياحاتها التراكيب والعبارات المبتذلة أو الروتينية، لتعدل الجرح وتجبر الكسر في تراكيب جديدة مدهشة قابلة للتجدد، للجرح والتعديل.
وعبد القادر رابحي الشاعر الجزائري الثائر، مسكون بولع الحرف الملغوم؛ يبحث في الكلمة عن فضاء للبوح بمكنوناته التي طالما اكتوى بنارها.
إن الكلمة هي سلطة الشاعر المسكون بولع التغيير الصالح، و كل كلمة " تشي بايدولوجيا قائلها "1 على حد تعبير باختين، كما أنها تشير إلى رؤيته للعالم، وآماله وطموحاته المحاربة للوعي القائم، والمبشرة بالوعي الممكن، النظرة الاستشرافية المشرقة.
لقد كان شللي يكرر دائما لازمة عرف بها في العالم " إني أحمل بين جوانحي شهوة لإصلاح العالم"2، و أصبحت من بعده لازمة متبناة من طرف العديد من الشعراء والمصلحين، وكل المسكونين بهوس التغيير الفعال والهادف، و من بين هؤلاء، الشاعر المصري صلاح عبد الصبور الذي قال:"لست شاعرا حزينا، و لكني شاعر متألم، و ذلك لأن الكون لا يعجبني، و لأني أحمل بين جوانحي كما قال شللي، شهوة لإصلاح العالم"3.
و القارئ لقصائد عبد القادر رابحي يجدها قصائدا متألمة تنبئ عن ألم ناسجها، هذا الألم المذكي لحزن مستمر، دفين في أعماق الروح الشاعرة الحساسة و المنفعلة، والمحرك الفعال لحساسية الإدراك بالواقع الكائن، و عبد القادر رابحي مؤمن بأن الكلمة هي السلاح الفعّال، لاستشرف واقع جديد، أو وعي ممكن، فإن لم يستطع ذالك في الحقيقة، يكفيه شرف الاطلاع عليه في عالمه المثالي الجميل، الذي تشرئب إليه كل النفوس المحبة للخير والسلام والوفاء...
فالكلمة هي سلاح الشاعر المدجج بهوس التغيير وشهوته؛ و بهذا يكون الشاعر شبيها بالنبي.
لقد كان أفلاطون يؤمن أن مصدر الشعر علوي إلاهي، و الشاعر بهذا مطلع على الغيبيات، ويستطيع رؤية ما لا يراه البشر العاديون، لذالك كل ما يقوله هو رؤى حقيقية، تتحقق في المستقبل، ذلك بأن الشاعر عند أفلاطون " كائن أثيري مقدس ذو جناحين، لا يمكن أن يبتكر، قبل أن يلهم، ويفقد في هذا الإلهام إحساسه وعقله وإذا لم يصل إلى هذه الحالة فإنه يظل غير قادر على نظم الشعر أو استجلاء الغيب، ... الشعراء و المنشدون لا ينظمون أو ينشدون القصائد الجميلة عن فن، و لكن عن موهبة إلهية، لذلك لا يستطيع أحد منهم أن يتقن إلا ما تلهمه إياه ربة الشعر... لذلك يفقدهم الإله شعورهم ليتخذهم وسطاء كالأنبياء والعرافين الملهمين، حتى ندرك ـ نحن السامعين ـ أن هؤلاء لا يستطيعون أن ينطقوا بهذا الشعر الرائع إلا غير شاعرين بأنفسهم، وإن الإله هو الذي يحدثنا بألسنتهم."4
ومن هذا المنطلق قد نجد عذرا للمتنبي الذي اعتقد يوما أنه نبي، ونفهم جيّدا شعوره، فالشاعر يشبه النبي لأنه يحمل رسالة للمجتمع، ويسعى لتغيره وإصلاحه نحو الأفضل5؛ ويشبه المجنون و الساحر لأنه يقول ما لا يفهم، وما هو غير موجود، و في الآن نفسه يؤثر على السامعين و يسلب عقولهم.
وقديما قال رؤبة:"
لَقَدْ خَشيتُ أَنْ تَكُونَ سَاحِرًا * راوِيَةً مَرًًّا و مَرًّا شاعِرًا.
فاستعظم حاله حتى قرنها بالسحر."6
إن المتأمل لحالة الشاعر وأهدافه سيجده مسكونا برسالة التغيير بامتياز، ويرى أن حالته شبيهة بحالة النبوة في الانقطاع والتأمل والحزن، في التوحد والتفرد والحب الإنساني و الإصلاح... "إن الفلاسفة والأنبياء و الشعراء ينظرون إلى الحياة في وجهها، لا في قفاها ... وينظرون إليها ككل لا كشذرات متفرقة في أيام وساعات، ومن هنا فإن همومهم يختلط فيها الميتفريقا والواقع والموت والحياة، والفكر والحلم، وكثيرا ما تثقل وطأة هذه النظرة الكاشفة الثاقبة على نفوسهم، وينتابهم الشك في إمكان الإصلاح، ولذلك فإن في حياة كل شاعر أو نبي أو فيلسوف لحظات من اليأس المرير أو الاستبشاع الشامل للواقع و الطبيعة."7
لذلك يعتبر الحزن ـ بالإضافة إلى الحب و الفرح و الموت...ـ باعثا عظيما على الإبداع و قدح أوار فن القول، وشحذ القريحة، فهو يدخل الشاعر عالما من التصوف والتأمل والرؤيا والزهد. و يرى عبد العزيز المقالح أن الفرح البهيج والألم الطاحن لهما الأثر البالغ في إشعال أوار القريحة الإبداعية، " و في حالة فقدان الشاعر أو الفنان لهذين القطبين الفرح والألم، لا شك قد فقد دينامكية الإحساس والخيال ومن ثم أضاع القدرة على الكتابة أو التصوير أو الإيقاع."8
وعبد القادر رابحي يدرك جيدا هذا شاعرا و دارسا ناقدا؛ و لعله يؤمن مثلما آمن صلاح عبد الصبور بأن الشعر يقوم على" ثلاث مؤثرات هي الحب والحزن والموت ومادام هذا الثلاثي قائما فإن الشعر سيظل موجودا."9
ومن هنا يكون الشعر عند رابحي مرتبطا بالحياة، بل أعتقد أن رابحي من الذين وهبوا للشعر أنفسهم ـ وهم قلائل ـ حتى صار ارتباطه به ارتباط المريد بالشيخ و التابع بالمتبوع، والعاشق بالمعشوق، ورابحي الثائر المعروف بتمرده على كل ما يشل حريته ويقيدها، لا يرضخ ولا يرضى بالذل والخضوع إلا في حضرة سيده و آسره، السيد القاهر الشعر، لأن به تتحقق ذاته وحياته التي يرغب فيها ويطمح إليها.
وإذا كان الشاعر يشبه النبي في حبه للإصلاح و خير البشرية، فإنه أيضا يشبه المجنون في تبشيره برؤى و أشياء غير موجودة، و دعوته إلى أشياء مفقودة، و لامتلاكه انفعالا دائما وقلقا مستمرا، متقلب المزاج فأنت لا تعرف متى تكون فترة غضبه من فترة مرحه، قد يعيش ألوانا من الانفعالات في لحظة واحدة، كما أنه يملك إحساسا قويا للتنبؤ بالأحداث، ويستشعر الخطر ويشمه على مسافات بعيدة، وكأنه في هذه الحالة موصول الصلة بعالم الغيب مقطوع الحبل بعالم الحضور. لذلك يقال أن " الفانين و الفئران هم أكثر الكائنات استشعارا للخطر. ولكن الفئران حين تستشعر الخطر تعدو لتلقي بنفسها في البحر هربا من السفينة الغارقة، أما الفنانون فإنهم يظلون يقرعون الأجراس، ويصرخون بملء الفم، حتى ينقدون السفينة، أو يغرقون معها."10
و من أسباب هذه الحالة الجنونية وعدم الاستقرار النفسي عند الشاعر، هو إحساس فضيع بالغربة في المجتمع، لوجود بون شاسع بين ما يستشعره ويعيشه في عالمه الخاص وبين ما هو موجود في الواقع؛ و أيضا ذلك الصراع بين المتناقضات في داخله، وعدم إيجاد توازن منسجم بينها في نفسه الحائرة، فهو حائر بين سمو الروح ورفعتها وبين دنو المادة وانحطاطها، بين النورانية والترابية، بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة، بين حب البشرية جمعاء وخدمتها وبين الحب الذاتي الأناني... كما أنه يجمع بين الهدم والبناء، بين النار والماء، بين الجدب و الرخاء، بين العقم والخصوبة...
وعبد القادر رابحي الشاعر، مسكون بكل هذه المتناقضات، لذلك قد يتهم بالجنون؛ نعم إنه جنون العبقرية و القلق الشعري الباعث للقصائد الطوال، التي قد تصدم المتلقي لأول وهلة، بصعوبة قراءتها؛ و الراغب في فك شفرة رموز نصوص رابحي و فهم طلاسمها، والفوز ببعض ظلال دلالاتها، عليه أن يتسلح بالثقافة والصبر والأناة.
إن عبد القادر رابحي في خطابه الشعري، يمزج بين خطابين: خطاب موجه للوجدان تبعثه الروح الشاعرة المحملة بكثافة عاطفية عالية، وخطاب موجه للعقل يبعثه الحس السياسي الثوري الرافض للواقع والطامح للأفضل، ليحقق فعلا تواصليا إبلاغيا و تداوليا ناجحا على مستوى الفكر والعاطفة.
في الأخير أقول، عندما تقرأ لرابحي فاعلم أنك تقرأ تجربة عميقة في الشعر الجزائري المعاصر، تومئ بتجربة الشاعر الحياتية، إذ لولا تجربة الشاعر في الحياة وخبرته وفلسفته، لما تأسس تصوره العام لتجربته الشعرية واكتمل.
وعندما تقرأ لرابحي فاعلم أيضا، أنك أمام مجموعة كبيرة من التجارب الشعرية العربية و الغربية، القديمة و الحديثة و الحداثية، و أنّك أمام ترسانة فكرية وثقافية كبيرة، جعلت نصوصه الشعرية محملة بثقل فكري وحضاري، أكسبها صعوبة معرفية، لذلك تجد القارئ العادي لا يستطيع استيعابها، بل نجد حتى القارئ من النخبة المثقفة يجد صعوبة في قراءتها، وتفكيك رموز لحمتها، إذا لم يكن مدججا بأسلحة ثقافية و تاريخية وفكرية وإجراءات تشريحية و جراحية.