قصص من الحياة : قصة رقم ( 15 ) قصة حقيقية :
لا يضيع العرف بين الله والناسٍ .
حكى لي صديق قصة حدثت معه منذ زمن طويل فقال :
أردت السفر لعمان عن طريق جسر اللنبي وكانت أختي تريد السفر لعمان فعرضت عليها مصاحبتي لكنها قالت أنا حضرت لقضاء أجازة نصف العام الدراسي عند الأهل وبقي في الأجازة أسبوعاً فذهبت وحين وصلت الجسر وأنهيت إجراءات السفر أخطأت في السيارة المتجهة لعمان فركبت سيارة متجهة للزرقاء ( مدينة قرب عمّان ) كنا في السيارة خمسة ركاب أنا وامرأة شابة جميلة في الكرسي الأمامي إلى جانب السائق ، لخفة وزني وصغر سني ، وفي الخلف ثلاثة ركاب يبدو على سيماهم ما يدعوا للإزعاج ، وأضاف : كنت منزعجاً جداً للخطأ الذي حدث لي بركوب السيارة الخطأ ، والمنطقة لا تساعد على أخذ مواصلة أخرى ، فأكملت طريق على مضض ، في الطريق أحسست بمؤامرة تحاك خيوطها بين أربعتهم ، كانت تجري عبر تبادل النظرات في المرآة ، توجستُ خيفة وتوجستْ المرأة ، وكأنها تقول لي لا تتركني وحيدة ، فهمت ذلك كله بطريقة لم أعهدها من قبل ، فبدأت أفكر في كيفية تخليص المرأة من براثن الرجال الأربعة ، كنت قبلها عبّرت للسائق عن امتعاضي وبرغبتي في النزول عند أول طريق يمكن أن يوصلني لعمّان ، لكنّي الآن عقدت العزم على إكمال الطريق ، حتى أوصل المرأة لمأمنها .
في الطريق تشبثت المرأة بي بطريقة واضحة ، فهمتُ منها أنها فهمتْ ما يدور في عقول الرجال الأربعة ، من خلال نظراتي أفهمتها أنني فهمت ولن أتركها ، وخلال الطريق علمت منها أنها ستنزل في مخيم شلنر على مبعدة من مدينة الزرقاء .
أضاف صديقي قائلاً :
في أول تقاطع قبل الدخول إلى مدينة الزرقاء وقف السائق وقال هذا الطريق به سيارات تتجه لعمّان العاصمة الأردينة ، قلت له وأنا أزدرد ريقي سأكمل الطريق لمخيم شلنر فتنفست المرأة الصُعداء فامتعض السائق بدرجة واضحة ، وقال لكنك في عجلة من أمرك ، وتريد الوصول لعمّان بأية طريقة ، ما الذي استجد ؟ أفهمتهة أنني غيرت خط سيري وأود التوجه للمخيم وأفهمته أنني دفعت أجرة حتى مدينة الزرقاء ، كان لا بد أن ينصاع لما قلته حين وجد مني إصراراً أكيداً ، أوصلنا المرأة حيث تريد ، ونزلت وأنزلت حاجياتها حيث كان ينتظرها أحد أقربائها على باب بيته ، وقبل أن تتحرك السيارة أوعزت المرأة لقريبها أن ينزلني من السيارة ، والسائق يصر على إيصالي لموقف السيارات ، جذبني قريب المرأة خارج السيارة ونهر السائق بأن يمضي إلى حال سبيله ، فمضى وهو ينظر إلي نظرات نارية .
وما أن ابتعدت السيارة حتى استأذنت من الرجل وذهبت لحال سبيلي عائداً إلى العاصمة عمان .
شكرني الرجل على شهامتي بعد أن حكت له المرأة ما حدث وأعربت عن مخاوفها مما كان ، وبأن الله سلم ، طلب مني الرجل المبيت عنده لأن الوقت كان متأخراً والجو شتاءً وربما تمطر ، فاعتذرت منه وانصرفت فبتُ عند قريب لي في نفس المخيم .
أضاف صديقي قائلاً :
في الصباح الباكر عدتُ لعمّان ، ونزلت عند أصدقاء لي كنت تعودت النزول عندهم في ذهابي وإيابي .
كانوا قد وضعوا افطارهم ، فجلست لتناول الطعام معهم ، بعد دقائق قليلة طرق أحدهم الباب بصورة شديدة ، فتح أحد الأولاد الباب فإذا ( خوري ) وهو مأذون أهل الملة النصرانية ، كث اللحية كبيرها مصطحباً أختي ، فما أن رأيتها حتى اصبت بالذعر ، وعبرت عن استغرابي قائلاً : أنت بتٍ في عمان إذن ؟ فنظرتْ لرجل الدين وقالت نعم يا أخي ( عند أبونا الشيخ ) فابتسم ضاحكاً وقال لا تخف ولا عليك ، فهي كانت ولا زالت في أمان الله وحفظه ، وها هي سليمة معافاة ، وذهب الرجل وهو يقول بعد صلاة الظهر انتظركما على الغداء ، ومن أراد أن يأتي معك وكان يردد أية من القرآن
( وطعام الذين أوتوا الكتاب ) مما أذهلني وانصرف .
جلست أختي وطلبت مني أن أكمل افطاري لتروي لي الحكاية فقالت :
( ما إن سافرتَ أنتَ حتى أخبرتني خالتي ( الذاهبة للحج ) بأن موعد سفر الحجاج على وشك الإنطلاق ، ( ومن المعروف أن الحجاج يعاملون معاملة خاصة فيعبرون بسرعة وقبل أي مسافر ) ، فأقنعتني والدتي بالسفر ولامتني بأني لم أسافر معك .
فسافرت مع خالتي أملاً في أصل إلى عمّان قبلك فسيارات الحجاج تعبر بسهولة ويسر وقبل أي مسافر
ومعي عنوان أصدقاءك هؤلاء .
وتم حجز سيارات الحجاج على جسر اللنبي حتي الساعة التاسعة ليلاً ، على غير العادة ، ونزلت العبدلي ( موقف سيارات الركاب في عمّان ) ، وركبت سيارة نحو الحي الذي يسكن فيه أصحابك ، فبحثت عن العنوان فلم أجده ، فبحثت عن دارهم بالسؤال في بعض المحال التي لا زالت مفتوحة حتى أغلقت جميعها ، حتى كاد ينتصف الليل بدون فائدة ، وكانت البيوت مظلمة بحكم جو الشتاء فلا سهر ولا خروج ولا أحد يمر ، وجدت في آخر الشارع ضوءاً ينبعث من أحد الفلل فاتجهت
إليه كآخر أمل بعد أن كادت أنفاسي تنقطع ، وبلغ الخوف مني مبلغاًعظيماً. طرقت الباب بعد قليل فتح لي شيخ ذو لحية كثيفة وطويلة أرعبتني ، وكان لا زال بي رمق حين قال لي : تفضلي يا ابنتي ، فقلت له بجرأة رغم خوفي الشديد : من أنت وفيما اللحية الكثيفة ، ابتسم الرجل وقال للفتاه مختصراً على نفسه وعليها الحديث :
لا تخافي أنا خوري النصارى ، فسألته وما الخوري ابتسم وقال :
أنا مأذون النصارى ، على صوتنا جاءت عجوز وفتاة في مثل سني فابتسمتا وسلمتا وأدخلتاني الدار ، فدخلت رغم خوفي ، إذ لامناص من ذلك في هذا الظرف العصيب .
دخلت أنا والفتاة في حجرة نومها ، فعرضتْ على العشاء والطعام إلا أنني رفضت ، وجلست أتفقد الحجرة .... بابها ومنافذها ، طرق الخوري الباب وأعطاني مفتاحاً للباب وقال :
هاكِ مفتاحاً للباب ليس عندنا غيرة ، وللباب سحّاب إغلقي الباب عليك وعلى ابنتي ، وكوني مطمئنة فلن يصيبكِ شر بإذن الله تعالى وانصرف .
وبتُ ليلتي بأمان لم أعهده قبلاً ، وقمت صليتُ الصبحَ وأفطرتُ ، وها أنت تراني أمامك .
كان صديقي يحدثني ويبكي مما أبكاني معه وقال أخيراً من خلال دموعه :
أرأيت صنع الله يا أخي
كان لي بيتان أنزل في ضيافتهما ، فأصبح لي عشرة بيوت تسقبلني ، فسألته حين عجزت عن معرفة من أين له عشرة بيوت ، قال قريبي في مخيم شنلر وأصدقائي القدامي وأهل المرأة وقريبها والخوري وقبل أن أسألة والخمسة بيوت الأخرى قال : وأبناء الخوري الخمسة حين علموا بالقصة .
وأضاف لا يضيع العرف بين الله والناسٍ
فهززت رأسي بالإيجاب قائلاً :
لا يضيع العرف بين الله والناسٍ .
احترامي للجميع .
أبو عبدالله .