العلاقات السيميائية في النص القرآني دراسة في دلالة الحسي المشاهد على المجرد الغائب
سليمان بن علي - الجزائر
(ليس باستطاعتي أن أدرس أيّ شيء في هذا الكون.... إلا على أنه نظام سيميولوجي)
[تشارلز بيرس(1)]
يعتبر النظام الكوني، بكل ما فيه من إشارات وعلامات ورموز، نظاماً ذا دلالة؛ ولهذا قال الله سبحانه وتعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبيّن لهم أنه الحق(. وبما أن السيميولوجيا هي العلم الذي يدرس الإشارات الدالة- مهما كان نوعها وأصلها- في بنيتها وعلائقها في هذا الكون، فقد ارتأيتُ أن تكون هذه الدراسة البسيطة قائمة على إيجاد الصلات الدلالية الدقيقة، التي عبّر عنها القرآن الكريم وأمرنا بتدّبرها والتأمّل فيها، بين المحسوسات والمجرّدات (عالم الحس وعالم الغيب) قصد فهمها وتمثّلها روحيّاً وعقلياً باعتبارها من سنن الكون، وأن نستدل بالأولى على الثانية؛ لأن الدلالة هنا تعبّر تماماً على ما قصده القدماء من أهل المنطق والأصول والعربية وعلم الكلام في قولهم "أن يكون الشيء بحالة يلزم من العلم به العلم بشيء آخر... والمراد بالشيئين ما يعمّ اللفظ وغيره"(2).
وينطلق موضوع هذه الدراسة من معيار (القصد) الذي تبنّاه مونان ومارتيني وغيرهما من علماء سيميائيات التواصل، في مقابل مبدأ (التأويل) الذي تبناه اتجاه سيميائيات الدلالة لرولان بارت.
وهو معيار اشترطه علماء العربية قديماً في الدلالة، فرأوا أن ما يُفهم من غير قصد من المتكلم لا يكون مدلولاً للفظ أو غيره عندهم، بخلاف المناطقة فإنها عندهم –أي الدلالة- فهم المعنى مطلقاً(3).
إنّ ما سنقدمه بين يدي القارئ الكريم يعتبر تصوراً جديداً لفهم بعض الحقائق عن عالم المجردات والغيبيات، التي أُمرنا أن نتعرف إليها ونؤمن بها، بمعطيات من عالم الحس والإدراك. وكلّ ذلك في ضوء ما تقدّمه السيمياء والدلالة من نظريات وأفكار منهجية، نتوخى من خلالها أن نقف على البنية السيميائية للمشهد أو الصورة من حيث هي مدرك حسّي يعود إلى حقيقة مجرّدة ويحيل إليها، مع بيان ما في ذلك من أسرار وعجائب قد تذهل عقولنا وعقول علماء السيميائيات من الغربيين؛ لأنها تستمد طبيعتها من صانع هذه العلامات والإشارات والرموز.
إن النمط الذي يحكم العلاقات بين الأنظمة السيميائية التي سنتحدث عنها هو علاقة التماثل التي تؤسس علاقة متبادلة بين أجزاء- أو كليات- لنظامين سيميائيين، ولا تستقرأ هذه العلاقة من النظام نفسه، ولكنها تسقط عليه من خلال الصلات التي تكتشف أو تقام بين نظامين مختلفين(4). وما دامت العلامة في بعض تعريفاتها هي ذلك الشيء القابل للإدراك الدال على معنى لا يتحقق إلا به، فإننا نجد الإنسان منذ أن كان وهو يجهد نفسه للوصول إلى اللا مدرك انطلاقاً مما هو ظاهر، ويبحث عن الوسائل التي يحول بها الخفي من خفائه إلى حالة ظهور(5).
ويكاد جميع الباحثين يجمعون على التمثيل للإشارة –وهي نوع من أنواع العلامة- بالدخان الذي يدرك بحاسة البصر فينبئ عن وجود نار لا يطالها الإدراك، ومعنى ذلك أن الدخان لا يكون إشارة إلا حيث لا تظهر النار للعيان؛ لأنها حين تظهر معه في نفس الوقت لا يكون الدخان إشارة(6) وهذا المثال كثيراً ما يساق عند تعريفهم للإشارة.
إن كل ما سبق يعطي لهذه الدراسة للعلاقات السيميولوجية بين عالمي الحس والغيب في النص القرآني شرعيتها، خاصة إذا علمنا –من جهة أخرى-أن هذه العلاقات شبيهة إلى حد ما بالأعمال المتخيّلة، رسماً كانت أو مسرحاً أو سينما، والتي تعمل بالقياس إلى المعروف، إذ نجد المتلقي أو المشاهد يستسلم إلى تأثير ما يُعرض أمامه، لأن المماثلات الجزئية –أو الكاملة- الحاصلة بين ما يعرفه وبين ما يعرض أمامه تجعله يقبل إمكان مشابهة ما يعرفه بما يجهله فيُكشف له(7).
وقد حصرت الكلام عن علاقة عالم الحس بعالم الغيب، ودلالة الأول على الثاني، على ظاهرة القَسَم في النص القرآني، وأعني بذلك قَسم الله سبحانه وتعالى ببعض مخلوقاته كالفجر والضحى والتين والزيتون.. وغيرها، ذلك لأن القسَم بهذه المخلوقات –التي هي آيات إلهية يُشاهدها الإنسان ويدركها يوماً بعد يوم يحمل في ثناياه بياناً وتوكيداً للحقائق الغيبية التي أراد الله سبحانه وتعالى أن يؤكدها لعباده؛ ومن ثَمّ فإن هذا النوع من القَسَم لم يخرج عن إفادة التوكيد والتحقيق الذي يُستفاد من أيّ قسَم في اللغة العربية، إلا أنّ هناك فرقاً دقيقاً بينهما –أي بين هذا النوع من القسم والقسم المعروف- وهو أنّ هذا الضرب من القسم بالمخلوقات (المرئية عادةً) فيه بيان لحقيقة غيبية وتأكيد عليها بحقيقة مرئية، وهذا ما لا نجده في القَسَم العادي.
والذي أريده من خلال هذه الدراسة ليس تتبّع ما قدّمته الدكتورة بنت الشاطئ رحمها الله في تفسيرها البياني للقرآن من علاقات بين المقسم به (الذي يكون حسياً في الغالب) والمقسم عليه (الذي يكون غيبياً ومجرداً في الغالب أيضاً) بالنقد والتعقيب، بل ما أريده هو المُضيّ في تحقيق ما وصلتْ إليه من خلال منهجها السياقي الذي أخذته عن أستاذها أمين الخولي رحمه الله وتأكيده تأكيداً لا يدع للشك مجالاً في أنّه منهج قرآنيّ فريد يستطيع الباحثون من خلاله أن يكشفوا عن مقاصد القرآن الكريم من غير أن يداخلهم شكُّ خطئهم في فهم معاني آياته. و سيكون تأكيدي لهذا المنهج الخطير الذي لم يُغفله حتى القدماء في تفسيرهم(8)- بما فتح الله به عليّ من كشف عن مقاصد بعض هذه الأقسام (جمع قَسَم)، والوقوف على ما يؤيده من القرآن الكريم نفسه، وذلك حتى نكون قد احتججنا لتفسير هذا النوع من القسم في القرآن بالقرآن، ونحن نعلم أن أعظم طرق تفسير القرآن وأصحها على الإطلاق هو أن يُفسَّر القرآن بالقرآن، لأن ما أشيرَ إليه في مكان منه فإنه قد بُسط فيه القول وفُصِّل في موضع آخر، وبذلك تطمئن نفوسنا إلى صحّة هذا المنهج وهذا التفسير الذي سنرتضيه للقَسَم، وأننا لم ننخدع بفكرة أملاها علينا السراب أو الخيال فجعلتنا لا نخشى التهجم على كتاب الله والقول فيه بالظن.
وأوّلُ ما وقفتُ عليه من ذلك تفسيرُ القَسَم في قولـه تعالى: (والسّماء ذاتِ الرَّجْعِ والأَرْضِ ذات الصَّدْعِ إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ وما هُوَ بِالهَزْلِ( [الطارق 11-14]، إذ نجد أنّ أغلب المفسرين ذكروا أن الرجع هو المطر أو الغيث، بل وذهب بعضُهم إلى بيان سرّ تسميته بالرجع فقال الشوكاني مثلاً: "إن العرب كانوا يزعمون أن السحاب يحمل الماء من بحار الأرض ثم يُرجعه إلى الأرض"(9)، ومنه قال ابن عباس: "هو السحاب يُرجع المطر"(10). أما الصدع ففيه إشارة إلى تصدع الأرض وتشققها عند خروج النبات منها ولذلك نجد بعض المفسرين يفسره بالنّبات، إذ نجد في روح المعاني أن "الصدع هو ما تتصدع عنه الأرض من النبات وأصله الشق سُمّي به النبات مجازاً"(11) لأنه يصدع الأرض فتنصدع به وكأنه قيل والأرض ذات النبات الصادع للأرض(12). وإذا كان هذا كذلك في معنى الرجع وفي معنى الصدع فإن المناسبة واضحة جدّاً بين القسَم والمقسَم عليه وهو الضمير في (إنه) من قوله تعالى: (إنه لقول فصل وما هو بالهزل( العائد –حسب ما يقتضيه السياق العام للسورة على البعث والنشور، لا على القرآن كما نجده في جميع التفاسير تقريباً، ذلك أن الله سبحانه وتعالى أراد من خلال هذه السورة الكريمة أن يحقق على الكفار وأن يؤكد لهم أمر المعاد الذي سجّل القرآن نفسه في عدة مواضع إنكارهم لـه كقولـه تعالى على لسان بعضهم: (أيعدكم أنكم إذا متم وكنتم تراباً وعظاماً أنكم مخرجون( [المؤمنون 35] وقولـه:(قالوا أئذا متنا وكنا تراباً وعظاماً أئنا لمبعوثون( [المؤمنون 82] وقوله: (وقال الذين كفروا أئذا كنا تراباً وآباؤنا أئنا لمخرجون( [النمل 67] وغير ذلك من الآيات البيّنات التي بَدَا إنكار الكافرين لأمر البعث والنشور فيها واضحاً، فلجأ القرآن الكريم إلى هذا الأسلوب البياني الدقيق وهو القَسَم بآيات الله التي تتجسد فيها ظواهر مشاكلة للبعث والمعاد، وهي ظواهر تمر بالإنسان حيناً بعد حين ولا يشك في أمرها لأنها تحدث وتتجسد أمامه، فكأنّ القرآن أراد أن يَلْفِتَ أنظارهم بهذا القَسَم الذي تَضمّن السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع إلى أنه كما أنّكم تَرَوْنَ كيف تحمل السماء الماء من بحار الأرض وأنهارها.. ثم تُعيده وترجعه على شكل أمطار، وكما أنكم ترون كيف أن الأرض تكون قاحلة ميتة فيبعث الله فيها الحياة من جديد فتتشقّق وتتصدع عن النبات رمز حياتها فكذلك أنتم بعد موتكم ستُعاد لكم الحياة وتُبعثون بعد موتكم من جديد.
ولعل ما يؤكد هذا المعنى الذي فهمناه ويزيد النفس طمأنينة إليه أن القرآن الكريم قد سجّل هذا التناسق العجيب بين الظاهرتين بعث الحياة في الأرض بعد موتها وبعث الحياة في الأموات ودلالة إحداهما على الأخرى بوضوح، وذلك في قوله تعالى: (ونَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبَاركَاً فَأَنبَتْنا بِهِ جَناتٍ وحَبَّ الحَصيدِ، والنَّخْلَ باسِقاتٍ لهَا طَلْعٌ نَضيدٌ، رِزْقاً لِلْعبادِ وأَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ الخُروجُ( [ق9-11]، أي كما أنبتنا بهذا الماء هذه الأرض الميتة فأحييناها به فأخرجنا نباتها وزرعها كذلك نخرجكم يوم القيامة أحياء من قبوركم(13)، كما يظهر هذا المعنى بوضوح لا يدع مجالاً للشك في أمر المشاكلة بين إحياء الأرض (المقسم به) وإحياء الموتى وإخراجهم يوم البعث (المقسم عليه) قوله تعالى في موضع آخر: (وهو الذي يرسل الرياح بُشراً بين يدي رحمته حتى إذا أقلّت سحاباً ثقالاً سُقناه لبلد ميّت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتى لعلّكم تذكّرون( [الأعراف 57]، ولا شك أن في التعبير عن إخراج النبات من الأرض بالإحياء وعن إحياء الموتى بالخروج تحقيقٌ للمماثلة بين إخراج النبات وإحياء الموتى لتوضيح منهاج القياس –أي قياس الغائب على الشاهد- وتقريبه إلى إفهام الناس(14) ولبيان صدق هذه الحقيقة الغيبية (البعث) بحقيقة مماثلة ولكنها مرئية (إحياء الأرض بعد موتها) للذين يكفرون بها؛ ومن أجل شدّة سطوع هذه الحجة وبيانها عن الغرض الذي سيقتْ من أجله ذَكر القرآن أن إنكارهم للبعث بعد أن بُيّن لهم في قوله: (وآيةٌ لهم الأرض الميتة أحييناها( وقوله: (والله أنزل من السماء ماء فأحيا به الأرض بعد موتها. إن في ذلك لآية لقوم يسمعون((15) [النحل 65] وقوله: (ومن آياته أنك ترى الأرض خاشعةً فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزتْ ورَبَتْ إن الذي أحياها لَمُحْيِ الموتى( [فصلت 39] وقوله في معرض الاحتجاج للبعث وتأكيد أمره، وبعد أن قال: (يا أيها الناس إن كنتم في ريب من البعث):
(وترى الأرض هامدة فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحيي الموتى وأنه على كل شيء قدير( [الحج 6-5] يدعو إلى العَجب حقَّاً فقال سبحانه: (وإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنّا تُراباً أَئِنّا لَفِي خَلْقٍ جَديدٍ( [الرعد 5].
كما نجد القرآن الكريم يصف الأرض عند إحيائها بإخراج نباتها بنفس الوصف عند خروج العباد يوم البعث منها إذ قال تعالى: (يَوْمَ تَشَقَّقُ الأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسيرٌ( [ق 44]، ويصف بالمقابل إحياء الأرض بنفس الوصف الذي وصف به إحياء العباد (النشور) فقال: (والَّذي نَزَّلَ مِنَ السّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذَلِكَ تُخرَجونَ( [الزخرف11]، بل ويُسمِّي إحياء العباد وبعثهم في يوم النشر بـ (الرجْع)(16) الذي وصف به المطر لأن كلاًّ منهما رجَع إلى حالته التي كان عليها، فالناس عادوا كما كانوا والمطرُ عاد ماء كما كان من قبل أن يرتفع إلى السماء في هيئة بُخار؛ مما يؤكد المناسبة بين هذه الظواهر لاتحّادها في الألفاظ الدالة عليها والمعبِّرة عنها.
ويؤكد هذا المعنى الدقيق الرابط بين المقسم به (السماء ذات الرجع والأرض ذات الصدع) والمقسم عليه (إنه لقول فصل: أي الرجع أو البعث) أيضاً ما ورد في سنة نبينا المصطفى محمد ( في شأن يوم القيامة فقد روى الإمام مسلم في صحيحه –باب ما بين النفختين- عَنْ أبي هُرَيْرَةَ أنه قَالَ: قالَ رَسُولُ الله (، "مَا بَيْنَ النّفْخَتَيْنِ أَرْبَعُونَ" قَالُوا: يَا أَبَا هُرَيْرَةَ أَرْبَعُونَ يَوْماً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالُوا: أَرْبَعُون شَهْراً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. قَالُوا: أَرْبَعُونَ سَنَةً؟ قَالَ: أَبَيْتُ. "ثُمّ يُنْزلُ اللهُ منَ السَّمَاء مَاءً فَيَنْبُتُون كَمَا يَنْبُتُ البَقْلُ. قالَ: "وَلَيْسَ مِنَ الإِنْسَانِ شَيءٌ إِلاّ يَبْلَىَ. إلاّ عَظْماً وَاحِداً وَهُوَ عَجْبُ الذّنَبِ. وَمِنْهُ يُرَكّبُ الخَلْقُ يَوْمَ القيامَةِ، وهو ما رواه الإمام البخاري كذلك في باب: (يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً) [النبأ: 18]. وعجب الذنب هو جزء صغير في العظم الذي في أسفل الصلب(17). كما جاء في مسند الإمام أحمد: (حدّثنا عبد الله حدّثني أبي قال: ثنا بهز قال: ثنا حماد بن سلمة قال: أنا يعلى بن عطاء بن وكيع بن حدس عن عمه أبي رزين العقيلي أنه قال: يا رسول الله، أكلنا يرى ربه عزّ وجلّ يوم القيامة؟ وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله (: أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قال: بلى، قال: فالله أعظم، قال: قلت: يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال: أما مررت بوادي أهلك محلاً قال بلى، قال: أما مررت به يهتز خضراً قال: قلت بلى، قال: ثم مررت به محلاً؟ قال: بلى، قال: فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه".
يتبع