ثلج .. ثلج
كنت قد قررتُ النوم مبكرا هذا المساء ، فأطفأتُ كل المصابيح الكهربائية ، وأغلقتُ جميع النوافذ ، وأسدلتُ الستائر الرمادية الموردة بألوان الحديقة.
هي من اختارت هذا اللون .. ضحكت في نفسي
عندما فكرتُ بأنها لو سمعتْ كلمة لون في هذا السياق ، فستنبري شارحة لي أن الرماديّ ليس لونا !
على أي حال ، لم أكن أحب الرماديّ لأنه ينتسب إلى الرماد ، والرماد حياد .. إلا أنها كانت ستقول أن الرماد هو نحن !
اقترحتُ عليها أن تكون الستائر إما قاتمة مورَدة أو فاتحة مورَدة ، إلا أنها أقنعتني أن غرفة النوم تحتاج إلى الانسجام والتناغم لا للتباين والتضاد ، فاقتنعتُ بالحياد .
تنبهتُ إلى أن الظلام يعم المكان ، ولا من ضوء إلا ما يخترق قماش الستائر من وميض البرق. الليلة عاصفة ، ومطر خفيف كالرذاذ ، أو كالإبر الرفيعة يهمي بصمت ، ويجف بعضه بفعل الريح القوية ،قبل وصوله إلى الأرض . فشل الرعد والبرق في استمطار المزيد من ماء السماء .. ربما أبلغتهما الأرض بأنها ارتوت وما بها حاجة للمزيد .. أصوات الأوراق الدائمة الخضرة تؤلف لحنا غابيا تنبعث لموسيقاه رائحة التراب المترع ماء ، مختلطة بعبق أشجار الغابة الحرجية التي تحتضن مجموعة من البيوت الجبلية المتناثرة هنا وهناك في هذا الشمال البارد طقسا والدافىء روحا.
أضأت شمعة فتأرجحت ذبالتها بفعل خيوط من الريح تسربت من بعض الشقوق ، وتلمست طريقي نحو السرير ، فجلست ونظرت إلى الجدار خلفي ، وتسربت روحي إلى أوقات موغلة في الماضي ، مليئة بالأحداث المفرحة والمؤلمة ، العائلة والحب والحرب وأنواع السلام المقترحة ، البطولات الزائفة والتضحيات الصامتة ..تذكرت جدتي التي كانت تقضي في بيتنا شهرا من كل عام وتتركنا بعد انقضائه مع أحمال من الدهشة نُفرِح بها أنفسنا لبقية العام .. كنا نتحلق حولها لتبتدع لنا أشكالا وهمية لحيوانات مختلفة بإسقاطات الضوء والظل على الجدار أحيانا وعلى صفحة ملاءة بيضاء أحيانا أخرى .
كنت ما أزال أنظر للجدار فاستللت نظراتي من صلبه ، وكونت بكفيّ شكلا ، ثم أطلقت ضحكة كبيرة وأنا أرى حمارا يركض على الجدار .
فكرت فيها كثيرا ، تلك الغائبة الحاضرة ، ستأتي غدا ، وسأنام الآن .
أغمضت عيني ّ ، وأرخيْت العنان لجموح الفكر يجتاز تضاريس الوعي إلى مفازات اللاوعي الممتدة ، يغرق في امتداداتها اللانهائية .لم أدر كم من الوقت مرَ عندما تسرب إلى عينيّ ضوء عجيب مخترقا جفنيّ المطبقيْن ، فحاولت فتحهما ولم أر إلا الحلكة . ظننت أنني أحلم ، فأطبقتهما من جديد ، في اللحظة التي رن فيها جرس الهاتف قربي ، فحملت السماعة وأنا مغمض العينيْن ، وجاءني صوتها الأبح الجذاب .. ماذا تفعل ؟؟
قفزت واقفا ، فوقعت عيناي على الستائر الموردة وذلك الضوء الأبيض من خلفها يخترق مسام النسيج فيضيء ورود الحدائق فيها .
أسرعتُ إلى النافذة الكبيرة التي تحتل الجدار كاملا ، أزحت الستائر ، لأرى المشهد ،
التقاء السواد بالبياض ، هو لقاء دون امتزاج ولا تدرج ، لقاء يفصل بينهما فيه حاجز رقيق ، ستارة رمادية موردة .
فتحت النافذة ، وأنا أقف في المنطقة الفاصلة ، حيث الأسود في الداخل يهبط على جسدي من الخلف ، والضوء الخارجي ينير مني الملامح ويعشي العينين . أسكتتني الدهشة وأنا أنظر إلى الأشجار تحت النافذة وقد كون البياض منها تكوينات نحتية هائلة ، بتفاصيل غير مألوفة .. كنت مأخوذا ما زلت بتلك اللحظة الهاربة من فوضى الحياة وضجيج العاصفة الليلية وحلكة الغرفة .. كنت وحيدا متوحدا لا يشاركني هذه الروعة إلا صوت بوم مختف بين الأغصان يقول لي تمتع ! تأمل! استمع لهذه الموسيقا الصامتة
حكمة البوم ، نعم .. وصوت أنفاسي ، وخفق قلبي ..
هدوء .. هدوء.. لم يقطعه إلا صوت فيروز يعزف عليه لحنا يتصاعد من هاتفي المحمول .. ( تلج تلج عم بتشتي الدني تلج وال ....... )
تراجعت مأخوذا بكل ما حوته اللحظة ، وتناولت المحمول ، وسمعت صوتها ينطلق بفرح تغشاه نبرات عصبية غاضبة : أيها المجنون !! أغلق الهاتف الأرضي وهيا !
افتح الباب !!