مقالة من عام 1999م
ما أصعب أن يفقد المرء والديه!.. يصبح يتيما وإن غزا الشيب مفرقيه، ويعاني من الوحشة، ولو كان وسط أولاده وربّما مع أحفاده، فليس في الدنيا من يمكن أن يعوّض عن وجود مَن قضى الله تعالى في شأنهما فقال: ((وقضى ربّك ألاّ تعبدوا إلاّ إياه وبالوالدين إحسانا)).
وحشة الغربة
وأشدّ من فقد الوالدين وأصعب وأنكى، أن يفقدهما المرء وهو في الغربة، وقد يخفّف عنه أن يكون ممّن يحمد الله راضيا، وقد يملك الأمل ألاّ ينقطع عملهما بعد وفاتهما ما دام حيّا وواظب على الدعاء لهما، ولكن.. كم يضاعف ثقل الدمعة في عينيه، أنّه لم يكن يملك أن يزورهما وهما على فراش الموت، ولا كانا يملكان القدرة على السفر إليه وزيارته.. فوحشة غربته آنذاك وحشة مضاعفة، وألم الفراق رغم بعد المسافة ألم شديد الوطأة!..
عندما مات زوجها رحمه الله، كان ابنها طالبا في مقتبل الشباب، غادر بلده إلى بلد أوروبي للدراسة، فقد أصبحت أوروبا مقصد طالبي العالم، قادمين من بلدان إسلامية كانت في عصر مضى هي مناهل العلم والمعرفة للعالم أجمع!..
مات والده فسلّم أمره لله، وإن أظلمت الدنيا في عيني شبابه وأطبقت على بعض آماله، وبدّلت الوفاة حياته وحياة إخوته وكان منهم أطفال صغار.. فعاشت أم عبد الله ثلاثين سنة وهي ترعاهم، لا تطلب من متاع الدنيا إلاّ أن يكبروا آمنين، ويحصّلوا درجة علمية أو مهنة عملية.. حتى إذا تزوّجوا وصار للأولاد أولاد، صاروا مع أحفادها شغلها الشاغل في دنيا لم تعرف منها من ألوان المتعة سوى سعادة الأمومة!..
لم تكن أم عبد الله امرأة معروفة مشهورة.. لم تكن ممثلة من الممثلات ولا مغنية من المغنيات، من اللواتي تفتح الصحف والمجلات والإذاعات والتليفزيونات لهنّ الصدور، وتضعهنّ على عروش مزيّفة باسم فنّ انحرفت به الطريق فسُلّطت عليه الأضواء، ثمّ باتت لا تنساهنّ أو تتناساهن.. إلاّ إذا تبن لله عزّ وجلّ واستقمن!..
لم تكن معروفة مشهورة.. فباستثناء ما منحتها إياه الحياة العملية وتطلّبته الأمومة، ما كانت أم عبد الله قادرة على سلوك درب العلم والتحصيل، لتكون طبيبة معروفة أو باحثة مشهورة، ناهيك أن تكون من طبقة البارزين عبر منجزاتهم حقا أو نتيجة الحرص على إبرازهم فحسب، من سياسيين واقتصاديين وإداريين، وذاك قي بلد لا يعرف للنساء قدرا ولا قيمة كما ينبغي.. كما أنّه لا يعرف للرجال أيضا شيئا من ذلك، وإن كانوا من ذوي الاختصاص والخبرة والكفاءة، إلاّ على قدر ما تلتقي مواصفاتهم الذاتية تلك أو تفترق مع ولاءات ومنافع، شخصية محضة، قربا وبعدا من صاحب السلطان.. وقد يتوافق ذاك حينا وقد يتناقض أحيانا عديدة، مع تحقيق المصلحة العامّة للبلد وأهله.. مصادفة ليس إلاّ!..
كانت أمّا وأرملة.. والأمّ الرؤوم والأرملة الصبور تعرفها الملائكة في الدنيا والآخرة، فلا يضيرها ألاّ يعرفها كثير من الناس الراحلين كما رحلت!..
كانت امرأة صالحة، والمرأة الصالحة لها ثواب الصدّيقين والشهداء وإن بقيت "مجهولة" في دنيا، لا يكرّم سدنتها وخدمتها امرأة أنجزت ما أنجزت في بيتها، ولا أمّا صنعت ما صنعت في مدرسة جيل المستقبل من أبنائها وبناتها.. بل يكادون يزدرون بدورها العظيم ويحقّرونه.. فبئس ما يصنعون!..
لم يكن هذا ولا ذاك يضيرها ولا كانت تأبه به لحظة من لحظات عمرها.. ولكن كانت أمّ عبد الله تأسى وتألم، فقد كانت محرومة من رؤية بعض أبنائها. قد يسلّيها عبد الله بقربه، ووفاء ببسمتها ومداعباتها، وسعاد بأولادها.. ولكن بقي شطر من قلبها منفصلا عنها، بعيدا.. معلّقا بابن مغترب، بذلك الذي ربّته على الطموح.. ونشأ شابا جريئا.. والجرأة في أعين بعض المتعقلين ضرب من ضروب الطيش، ولكنّ طيشه لم يحمل بندقية، ولا عقد مؤامرة، ولا افترى على أحد، إنّما انصب في قلمه ولسانه، في حدود ما آمن أنّه حقّ يجب الجهر به، داعيا إلى التغيير في بلده، من أجل أن يعيش الإنسان إنسانا، وأن تخرج الكرامة من السجون، وأن تكسر الحرية أغلالا مفروضة، وأن يستند التقدّم إلى الكفاءة.
ولم يمنعه من مواصلة دربه ذاك علمُه أنّ مثل هذه الدعوة في مثل ذلك البلد جريمة كبرى، عقوبتها على من ينجو من سجن ومقصلة أو اغتيال، هو أن يحرم من بلده وأهله، وأن يعيش في غربة ثقيلة، طويلة لا تريد أن تنتهي، موحشة وإن كثر الأصدقاء، ظالمة وإن عوّض عن ظلمها ببعض ما يكتب.. فلحظات معدودات على فراش الموت يوم مات أبوه، أو على فراش الموت يوم لحقت به أمّه، كانت عنده أثمن من الدنيا وما فيها!..
كان ذلك بعض ما حرم منه ظلما وتعدّيا.. وأحسّ ما يعنيه في حياته، فلم يكن يريد أن يستمرّ الظلم والتعدي وأن يصيب سواه بمثل ما أصابه وأمثاله.. فما انقطع عن الكتابة رغم فداحة الثمن، وبقي يعارض الاستبداد بلسان وقلم يملكهما، وإن ملك الاستبداد أسباب النفي والتشريد والملاحقة، وبقي يأبى عروضا مشروطة بالسكوت والخنوع، فقد كانت سياط الغربة أهون لديه على قسوتها من جحيم السكوت ووضاعة الخنوع!..
الاستبداد.. والإنسان
ماتت أم عبد الله رحمها الله، ولم تلمحها عيناه مسجاة على الفراش، ولا مودّعة بالشهادتين، ولا محمولة على نعش، ولم يملك على البعد سوى الرضى والدعاء، وبعض الدموع في الخفاء، يتلقّى العزاء عبر الهاتف من بعيد، أو من بعض من عرفها من أصدقائه في غربة التشريد.. وهو –رغم ذلك كله- ذو حظّ يُغبط عليه، فكم من أمّ ماتت وهي لا تعرف هل ما يزال ولدها في السجن في عداد الأحياء أم قضى نحبه، وكم من أمّ لا تجرؤ على السؤال.. مجرّد السؤال عن مصير فلذة كبدها بعد تغييبه منذ سنوات وسنوات في أقبية المخابرات، وكم من أم كانت هي نفسها، وكان تنكيل الوحوش بها، وسيلة من وسائل التنكيل بولدها المتمرّد على الاستبداد في بلده.. عسى تنكسر إرادته ليعيش كبعض من يعيش عى طعام وشراب لا يعرف للحياة مضمونا سواهما.. هذا إن وجدهما، وعسى تنكسر شخصيته فبناء الشخصية الحرّة القادرة على العطاء والبناء والتقدّم دون نفاق ورياء ودون ولاء المنافع، بات من المحرّمات، وعسى ينكسر قلمه وينقطع لسانه، فحريّة الكلمة عندهم يكافحونها كما يكافحون الوباء، وقد يكون للاستبداد مناعة تحصنه من بنادق ومدافع ودبابات وانقلابات.. ولكن لا يملك مناعة ولا حصونا قادرة على حمايته من "وباء الكلمة".. فلا نستغربنّ أبدا خشيته منها أكثر من سواها من مختلف وسائل المعارضة ووسائل مكافحة الاستبداد!..
ماتت أم عبد الله.. رحمها الله وغفر لها!.. وبقي ابنها المغترب مغتربا، وبقي الزعيم المستبدّ في بلدها مستبدّا، منشغلا بتثبيت أركان استبداده.. كالمعتاد، فقد كان ذاك شغله الشاغل وهمّه المؤرّق على الدوام، يمنعه من الراحة والاطمئنان مذ وصل إلى السلطة ظانّاً أنّه قد وصل إلى الراحة والاطمئنان.. وكان وما يزال يشتري بعد سنين وسنين ولاء موقوتا ويبيع ولاءات، ويسعى ويدبّر ويكيد ويكدّ، فهل سينال بعد أيام.. أو أسابيع.. أو أشهر.. أو سنين معدودات حفرةً أكبر من الحفرة التي أنزلوا فيها أم عبد الله!..
ولا يتسع ضيق القبور إلاّ بما وسّعته رحمة الله، ولا تضيق بشيء قدر ما تضيق باغتصاب حقوق البشر، فهل يوجد أكثر من الاستبداد اغتصابا للحقوق!..
مضت أمّ عبد الله.. حاملة معها ومخلّفة وراءها دعوات بظهر الغيب، وعملا صالحا لا ينقطع ثوابه بعد الممات.. فما الذي سيحمله ذاك الذي حرمها وحرم أمثالها من الأمّهات الصابرات من فلذات أكبادهن.. إلاّ وبالا متراكما، ووزرا متعاظما، في قبره تحت التراب.. وإلى يوم لا تنفع فيه سلطة ولا مخابرات، ولا تغني فيه أسلحة البطش بأيدي الجنود ولا يغني قوم يعينون على الظلم بما أتقنوا من ضروب النفاق والرياء!..
بضعة وسبعون عاما من عطاء صامت.. دون أوسمة ونياشين، ودون تذمّر ولا تردّد، ودون منّة ولا شكوى.. ومرضت بضعة أيام فعالجتها أيادي أكفأ الأطباء في بلدها، جزاهم الله خيرا وأغنى بأمثالهم بلادهم عن سواهم، وما أغرب صنع من يزعم الحرص على خدمة موطنه، والحرص على دعم الكفاءات في موطنه، ثمّ يتجاوز من يوجد فعلا من أصحاب الكفاءات في موطنه، ويأبى التداوي إلاّ خارج أرض موطنه.. فكيف وهو رئيس أو ملك أو أمير يحمل المسؤولية الأولى عن تأمين أسباب التداوي على أيدي الأكفاء من أبناء موطنه، لكل إنسان داخل موطنه!..
رحلت أمّ عبد الله عن هذه الدنيا.. فلم يحضر وفاتها ولا شيّع جثمانها ملوك ورؤساء وزعماء، كبار وصغار، صادقون في عزائهم وغير ذلك، ولا رافقتها إلى مثواها الأخير عربات ولا مصفحات ولا عدسات تصوير ومكبّرات صوت، ولا نقلت الصور عن وداع أسرتها لها أقمار صناعية وشاشات عربية وأجنبية!.. رحلت.. ولم يبق –بهذا كلّه وبدونه- سوى الحساب بين يدي الرحمن، عمّا كان من إيمان وعمل، في دنيا أحقر عند الله من جناح بعوضة، بيـن يدي الديّان، يوم تكون الأرض في قبضته والسماوات مطويات بيمينه.. فالويل كلّ الويل لمن لا يرعى حقّ الله في عباده!..
وبشّر المؤمنين.. الذين إذا أصابتهم مصيبة قالوا إنّا لله وإنّا إليه راجعون، فيكفيها الدعاء بألسنة معدودة تلهج بالدعاء الصادق لها، أن رحمها الله وغفر لها واسكنها فسيح جنانه!.