في أعوامٍ لم تخلُ من الهمّ والألم كنتُ ومعه (الأخير) على موعدٍ دائم والأحتضان بيننا كان و لم يزل قائماً دون قيدٍ دون شرطٍ دون حدود.
كنت أستمع لنبض قلبه (أبي) وهو يحكي قصة فراقه التي اقتربت , كان يبثّ لنا رسالةً " الغربة ما عادت تحتملني" ذلك الطوق من الكبرياء لم يعد قادراً على إخفائه عن عيوننا التي كانت تنظر إليه بوجلٍ و خشيةٍ من رحيله فجأة دون أن يخبرنا أو حتى نشعر به..
في تلك الليلةِ المشؤومة والتي رن بها هاتف منزلي يخبرني فيها أخي أن والدي في الطوارئ, أضعتُ بصيرتي... أبحث عن أمتعة السفرِ لا أجد منها شيئاً يدلني على نفسي ..
موشومٌ أنت بروحي و دمي..يا قطعة منك أنا؛ كيف غافلنا الزمن وحرمني من أن أحملك على أكتاف روحي وأنت تصارع بقعة دمٍ اقتحمتْ خلسةً دماغك التي كانت تزن بلداً ومائةً من الفتيان الأبطال.
كنت متوجسة أن لا أجدك سوى جثةً هامدةً أوَ قد هان عليك تركي حتى دون وداعي ؟! ها أنا ذي أصلكَ بخطىً كأنني محمولة على ريح تسرعُ بي إلى مجهولٍ و فضاءٍ لا أدرك آخره..
عند الباب أخي ينتظر وصولي ... كان وجهه منتفخاً من كثرة البكاء..!
-هل مات أبي؟ أخبرني بربك..قل لي أين أبي؟
-أبي في الإنعاش لم يغب اسمكِ عن صوتهِ ,إذهبي إليه ، لا تُشعريه بخطورة ما هو فيه حبيبتي
وصلتُ اخيراً إلى الغرفة البيضاء..كلّ شيء فيها أبيض..كأنهم غلّفوك بكفنٍ قبل موتكَ أبي..جعلوني أحفر لك قبراً بين أضلعي..وقفت إلى جانبك وأمسكت بيدك المشلولة..لم تشعر بي هممتُ بتقبيل جبينك الطاهر ..
سقطتْ من عينيّ دمعتان ... صحوتَ على أثرهما من الغيبوبة ورأيتني على رأسك..
خطفتُ خطوةً مسرعة رجوعاً إلى أخي:
-ما به أبي؟
-جلطة في الدماغ أدّت الى شلل نصفه الأيسر..
-يا الله !
-قد لا يعيش الا لساعات منى..سنفقد أبانا الذي أتعبته الغربة معنا..
على هوةٍ الفقد وقفتُ, ومساحة الوجعِ تمددت إلى أبعد حدّ , بكلّ جرأة تداخلت في اجزائي وأشعلت في داخلي فوضىً من المشاعر المحمومة وبدأت ينابيع البكاء تشاكس شط عينيّ
وكأنهما في عصر تحدٍ و أنا بينهما عنصر ذلك التحدي , أستسلمُ لهما بالوجيب .
كيف كنت تمنعني عنه وأنت تمارسه خلف أسوار الأبوةِ بعيداً عن عيوننا ؟ أتَعْلمُ أبي أنك في كلّ رحلةِ بكاءٍ لك..كنت تزرع في داخلي رجلاً جديداً بوجهٍ مختلفٍ عن سابقيه ممن بكوا من الرجال !
مضى عامٌ كاملٌ وبقيتَ تبكي صمتاً ,في كلّ زيارة لكَ تمسكُ بيدي رجاءً أن لا أغادر غرفتك و أتركك وحيداً بين جدران أربعة في غرفة لا تحوي غير البياض وكيساً من الطعام المطحون
موصولاً بأنبوب يخترقُ بقسوةٍ معدتك وكأنها رصاصةٌ في صدري أنا.
استسلمت للمرضِ وتمكّن منك بعد أن فشلتْ كل محاولاتنا في أن تعدلَكَ عن فكرة الرحيل عنّا, فاصطادكَ حتى بدأ يتمادى في أحتواء أجزائك..فقدمك فساقك اليمنى حتى... بُترتْ!
فجيعتي بساقك كانت أكبر من فجيعتي بالوطن الذي كان يصارع الغرباء حينها..ولا يحمل في أرضهِ درعاً غير اسم الله..
الغريبُ أنك كنت صامتاً حتى بعدَ أن بتروها لك..فكتمت الوجعَ في داخلك وودعتني كما توجستُ دون وداعٍ .
لا زلتُ أراك في أحلامي بأجملَ روحٍ تزورني كلما احتجتُكَ فيها ونعاكَ قلبي ..ستبقى أروع وأوسمَ رجلٍ مرّ في تأريخ أعوامي الماضية وحتى القادمة.
لمْ أسحب منك الألم و لم أفديكَ بروحي , فهل ستصفحُ عني ؟
منى الخالدي
01\04\2007