هزة التكليف الأولى للداعية إلى الله بالتحرك وترك النوم والغطاء الدافئ ، ثم تغلغل روح الإخلاص ويقينه في جنبات نفسه ، تلك خطوات أولية مهمة ؛ كي يكون على أساس سليم ، وصلة خاصة برب العالمين .
وليس هذا كل شيء ، فثمة أمور كثيرة ، تشكل عقل وروح الداعية إلى الله ، كي يكون على مستوى من الاستعداد والتأهل لحمل أمانة الدعوة ، في عصر هو من التعقيد بمكان .
ثالث مكونات فسيفساء التكوين الدعوي للداعية هي روح الأمل ، روح مشرقة تحثه على الخير دائما مهما كانت العقبات ، روح تسري في كيانه مهما كانت المكائد والآلام ، روح تنبض فيه في كل وقت وحين تتجاوز الواقع المتعب ، وتتطلع لغد مشرق بهيج .
هذه الروح يغرسها القرآن الكريم في روحه وحركته وفكره وخططه ومستقبله ؛ ( لاَ تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ الله ) ، ( وَمَنْ يَّقْنَطُ مِن رحْمَة رَبِّه إلا الضَّالُّون ) ، ( ولا تيْأَسوا مِن رَوْحِ الله إنّه لا ييْأَسُ مِن رَوْح الله إلا القومُ الكافرون ) .
قال صاحب الظلال رحمه الله في آيات سورة يوسف السابقة : ( المؤمنون الموصولة قلوبهم بالله , الندية أرواحهم بروحه , الشاعرون بنفحاته المحيية الرخية , فإنهم لا ييأسون من روح الله ولو أحاط بهم الكرب , واشتد بهم الضيق . وإن المؤمن لفي روح من ظلال إيمانه , وفي أنس من صلته بربه , وفي طمأنينة من ثقته بمولاه , وهو في مضايق الشدة ومخانق الكروب . . . ) .
ولعل المسلم اليوم تعددت كروبه ، وتنوعت مصادر ضيقه ، وكثرت عليه الكروب ، يمر عليها كلها ، يبدأ من واقع أمة مؤلم ، وظلم مستشري ، وفساد منتشر ، ومجتمعات لاهية ، وتربصات توجع ، ومحيط مثبط ، واحتلال غاشم ، وهتك سافر ، وقتل مشين ، واعتقال ذليل ، إلى بيوت متصدعة ، وشباب تائه ، ودعاة كسالى ... يمر عليها كلها ، يفهمها ويعيها ، ولا تأثر فيه وتحبطه وتثبطه ، بل تجعل المسؤولية أعظم ، فهو حبيب الله ، وصاحب القدح المعلى ، ورافع لراية الأمل .
يَفيضُ من أملٍ قلبي ومن ثقةٍ ** لا أعرٍفُ اليأسَ والإحباطَ في غمم
اليأسُ في ديننا كُفْرٌ ومَنْقَصةٌ ** لا يُنبِتُ اليأسَ قلبُ المؤمنِ الفَهِمِ
دائما يتوجه في آماله لله رب العالمين ، فهو قبل الآمال ، ورواء الثقة ، معينه لا ينضب ، خالق الأكوان سبحانه ، دائما يرد حياضه ، ويطرق بابه ، يتوسل يبكي يطلب العون يتحنن ، لأنه سبحانه القوي العزيز الودود الرحيم .
يدرك أن الأيام دول ، وما هي إلا سحابة صيف وتتغير الأحوال ، وأن الظلم لن يطول ، وأن الفساد لن يعمّر ، وأن الاحتلال ماض ، وأن الأسير سيعود ، وأن دوام الحال من المحال ، عتاد ذلك هو الصبر واليقين ، تمر عليه الأمم كلها في سورة هود ، وما آلت إليه ، ثم يسمع ربه يقول له : ( ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَـؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُـلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) .
هي سنن الله لا تتغير ولا تتبدل ، في الإمداد والعطاء وفي الأخذ والعقاب ، والبصير من يعتبر ، ويحرص أن يكون من السعداء بمنهج الله سبحانه وآماله الكبيرة ، ويهرب من شقاء وكدر ويأس وإحباط ، فلا شك في وعد الله وتطبيق سننه ، إنما هو الوقت فقط ، فالله هو الخبير ، وعليك بالاستقامة كما أمرك ، وسوف ترى ، اثبت ، وإياك أن تركن للظلم ، فمرتعه وخيم وخيم ، أقم الصلاة ومرغ وجهك وروحك لله فقط ، واصبر . فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ .
هذه هي الروح التي يزرعها القرآن الكريم في أهله ، سواء على مستوى الأمة وهمومها ، أو على مستوى الذات وطموحها ، كذا على مستوى العلاقات وشجونها .
صاحب الأمل يتميز بعدة صفات نفسية ، لا ينالها من فقد الأمل في قلبه ..
* يبحث دائما عن الجيد والمفيد في كل موقف ، مهما كان الموقف مظلما ظاهرا ، وفي غالب الأحيان ـ كما يقول علماء النفس ـ أنه يجد ذلك الشيء ولو كان باطنا .
* يعتقد بأن العوائق والكربات لا تأتي للإعاقة ، بل من أجل التأسيس ، وأن كل موقف معيق أو كربة ظاهرة ، تحوي درسًا ثمينًا يتعلم منه ، وينطلق منه ، وتراه مصمماً على إيجاده .
* يفتش عن حل لكل مشكلة ، وعوضا عن اللوم والشكوى ، يبحث عن الحلول ، وتحليل الأمور ، وماذا عليه أن يفعل ، وكيف يتحرك ، وما هي الخطوة التالية .
* بطبيعته شخص إيجابي ، مرح ، يحب دائما أن يتذكر أهدافه ، يراها أمامه في عقله الباطن ، ويبتسم لها ، ويحرك روحه نفسيا وعمليا لها ، إنه يفكر في المستقبل ، ولا يعيش في الماضي ، يتطلع إلى الأمام أكثر من الالتفات إلى الماضي . ( 1 )
في حين أن صاحب اليأس مريض ، تعبان في كل أوقاته ، فقد عرف علماء النفس اليأس بأنه : (مرض نفسي يدفع صاحبة لضيق الصدر بالحياة واشتهاء الموت وتصور كل ما حوله بمنظار أسود قاتم يبدل المشاهد ) .
لما جاءت إبراهيم عليه السلام البشرى بالولد في سنٍ كبير أبدى تعجبه فقال: (قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِي الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ). فقالت الملائكة: (بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنْ الْقَانِطِينَ). قال عليه السلام: (وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ). ( 2 )
سماه القرآن ضلالا ؛ ضلال نفسي يجعل صاحبه يسير في غير الطريق الصحيح ، وعلى غير الصراط المستقيم ، يرى الأمور برؤية قاتمة على غير حقيقتها ، كأنه المزور المحتال المريض الناشر لمرضه .
قال أحد العلماء: لولا الأمل ما بنى بانٍ بنيانًا ، ولا غرس غارسٌ غرسًا.
قال ابن مسعود رضي الله عنه : أكبر الكبائر الإشراك بالله والأمن من مكر الله ، والقنوط من رحمة الله ، واليأس من روح الله .
قال وليد الأعظمي رحمة الله عليه :
كنْ رَابطَ الجَأشِ وارْفَع رايةَ الأملِ *** وَسِر إلى الله في جِدٍ بلا هَزَلِ
وإن شَعرتَ بنْقصٍ فيك تَعْرفهُ *** فَغَذِّ رُوحَك بالقرآنِ واكْتَمِلِ
راية الأمل : من صديق لا يعرف للأخوة معنى ، يطيب له البقاء معك في السراء ، هاجر لك في الضراء ، طليق اللسان غير مؤتمن ، لا يعرف من الإخاء إلا ما يروق له ، يظنك النبي المعصوم وإلا فأنت الملوم ، كافر للعشير ، ناكر للجميل ، قاس هماز ، وربما لئيم .. خبر أمثاله الإمام الشافعي فقال :
إذا المرء لا يرعاك إلا تكلفا ** فــدعه ولا تكــثر عــليه التأسفـــا
ففي الناس ابدال وفي الترك راحة ** وفي القلب صبر للحبيب وإن جـفا
فـــما كل من تهواه يهواك قلــبه ** ولا كل من صافـيته لــك قد صفا
إذا لم يكن صفـو الوداد طبيعــة ** فــــلا خير في ود يجيء تـــكــلفا
ولا خير في خل يخون خليــله ** ويلقاه من بعد المودة بالــــجفــــا
وينكر عيشا قد تقادم عهده ** ويظهر سرا كان بالأمس قد خفا
سلام على الدنيا إذا لم يكن بها ** صديق صدوق صادق الوعد منصفا
راية الأمل : في بيئة ميتة لا حراك فيها ، لا تدفع للطموح ، ولا تبني إشراقات النفس للمستقبل ، إنما هي بيئة الركود والطفيليات والطحالب ، بيئة حسد وتنافس غير صحي ، يكثر فيها الكلام ، ويقل فيها الإنجاز ، وقد يُقتل فيها النجاح ، بيئة تضيّق الصدر ، يبحث المرء فيها عن نسمات عليلة يروح بها عن صدره عريض الآمال .. كذا الشافعي النجيب يقول مجددا :
ما في المَقامِ لِذي عَقلٍ وَذي أَدَبِ ** مِن راحَةٍ فَدَعِ الأَوطانَ وَاِغتَرِبِ
سافِر تَجِد عِوَضاً عَمَّن تُفارِقُهُ ** وَاِنصَب فَإِنَّ لَذيذَ العَيشِ في النَصَبِ
إِنّي رَأَيتُ وُقوفَ الماءِ يُفسِدُهُ ** إِن ساحَ طابَ وَإِن لَم يَجرِ لَم يَطِبِ
وَالأُسدُ لَولا فِراقُ الأَرضِ مااِفتَرَسَت ** وَالسَهمُ لَولا فِراقُ القَوسِ لَم يُصِبِ
وَالشَمسُ لَو وَقَفَت في الفُلكِ دائِمَةً ** لَمَلَّها الناسُ مِن عُجمٍ وَمِن عَرَبِ
وَالتِبرُ كَالتُربِ مُلقىً في أَماكِنِهِ ** وَالعودُ في أَرضِهِ نَوعٌ مِنَ الحَطَبِ
فَإِن تَغَرَّبَ هَذا عَزَّ مَطلَبُهُ ** وَإِن تَغَرَّبَ ذاكَ عَزَّ كَالذَهَبِ
والاكتمال بالقرآن كما قال وليد ( فَغَذِّ رُوحَك بالقرآنِ واكْتَمِلِ ) .
القرآن الذي يقول لك : ( حَتَّى إِذَا اسْتَيْئَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ) .
ويناديك للاعتبار والتذكر : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ * إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَ * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا ) .
ويلاطف روحك : ( إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا ) .
فأنت حبيب الله ، والحريص على الإخلاص العميق ، فتذكر بأن أحلام اليوم حقائق الغد ، و أن مع العسر يسرا ، إن مع العسر يسرا ، وأن صناعة الحياة فن ومهارة ، وللأمل خصائص نفسية فتدرب عليها وحزها ، وقل الحمد لله بدينك وثباتك ، ولا تلتفت إلى الوراء والمواء والعواء ، وكن عظيما كما كان وليد ، والشافعي الخبير خدينك للمعالي ..
هذه مقالاتي بحسبي منها أن يكون عند الحقيقة ذخرها ، وعند الناضج وعيها ، وعند الله أجرها ....*
==========================
( 1 ) أبدأ بالأهم ولو كان صعباً . لبريان تريسي .
( 2 ) من مقالة لماهر السيد .