يوميّات مدرسيّة (2)
جِيوُغْرَافِي
صادف رسوبي تغييرا جذريّا في بعض البرامج والموادّ المدرسيّة، فبجرّة قلم وزاري تمّ تعريب مادّة الجغرافيا بعد أن كانت تُدرّس منذ سنوات عديدة باللّغة الفرنسيّة. وبذلك تسنّى لي أن أدرسها باللّغتين؛ وكانت أستاذتنا قد تعلّمت تلك المادّة بالفرنسيّة، ودرّستها طيلة سنوات بلغة فولتير، وها هي الآن مجبرة على تدريسها لنا بلغة الضّاد. كان ذلك عليها أمرا عسيرا، ولم يكن وضعها كامرأة حامل ليعينها على تلك المهمّة الشّاقة، لا سيّما وقد ضمّ فصلنا ذو الأربعين طالبا عددا لا بأس به من "العابثين"، كما وصفهم ذات يوم، أستاذ التربية الإسلاميّة. وكثيرا ما تشتدّ وطأة الدرس على أستاذتنا المسكينة، فتكثر أخطاؤها، وتتداخل عندها الفصحى ببعض الألفاظ العاميّة، فتزداد فورة الفصل بتأجيج من "العابثين"، فتتهاوى على كرسيّها، وراء المكتب، مستسلمة للقضاء، منتظرة صفّارة الخلاص.
دام هذا الوضع عدّة أسابيع، وذات صباح حظرنا لدرس الجغرافيا، ولم تحظر الأستاذة. أعلَمنا القيّم العام بأنّ أستاذتنا سيطول غيابها لأسباب صحّيّة، وبأنّ الإدارة بصدد البحث عن حلول لتعويضها، ودعونا الله خاشعين بأن لا تتوصّل الإدارة إلى حلّ!
وذات صباح كنّا منكبّين على امتحان في مادّة العربيّة، وإذا بباب الفصل يفتحُ، فيدخل مدير المعهد، مصحوبا بالقيّم العامّ، وعلى سحنتيهما علامات لا تُنبئُ بخير. وقف الجميع احتراما ورهبة، وعمّ صمت جنائزي. تحدّث المدير بنبرة يتخلّلها الحزم والصرامة: "يُحزنني أن أعلمكم بنبأ وفاة "مادام ج."، أستاذة التّاريخ والجغرافيا. وسيقع تعويضها في أقرب الآجال". خيّم على الفصل صمت رهيب، لم يتخلّله غير شهقات أستاذة العربيّة. ربّت المدير على كتفها بلطف أبوي لم نعهده فيه، وأشار إلينا بمغادرة الفصل بهدوء.
في الخارج، جلسنا ولم ينبس أحد منّا بكلمة واحدة، وكأنّ شعورا بالذّنب وبالندّم انتابنا جميعا. وانبرى محمد م. وافقا، وكان المتديّن الوحيد بالفصل، فقال برهبة وخشوع: "أدعوكم لقراءة سورة الفاتحة ترحّما على روح الأستاذة". وامتدّت الأيدي ونُكّست الرؤوس في خشوع صادق.