من قلب الجحيم تبزغ خيوط الفجر لتضيء لنا معالم ليلنا الذي طال ؛ من قال أنّ الوهن قد أحكم سيطرته على عقول الرجال ، ها هم في غزة ؟ ها هم يسطّرون بدمائهم الزكية ملحمة أخرى ، ها هم الأطفال يزفّون إلى العلياء حاملين معهم أمانيّ ما كانت لتموت لو لا تآمر شرذمة من المنافقين والعملاء ، يرحلون كما الغيث يحيي الأرض بعد موتها ؛ يحييون فينا ما تبقى من نخوة تعلقت بوهن لطالما ظنّ البعض أنّه لن يرحل ، يرحلون ومن خلفهم نساء صابرات يغزلن بدموعهن قصائد وداع لمن عشق الأرض ؛ وينثرون الورد في فضاء صمت مدجج برائحة البارود وكثرة حروب الردّة والنكوص على الأعقاب ، يطلقون زغاريد الفرح لرحم الأرض التي ما فتأت تنادي أبنائها ؛ هلموا إليّ يا أبناء الفجر المعتق برائحة الزيتون ، و عطر الشهداء . ها هم الشيوخ الأماجد ما زالوا يصنعون القهوة المرّة ؛ مرارة حزننا على فواجع عصرنا ، وظلم الشقيق ، وغدر الصديق ، ها هم يلملمون ما تبقى من ذكريات الأحياء في القبور فوق ثرى الأرض ، ها هم يرمّمون ذكريات الماضي الجميل ، ويحفرون في الذاكرة نفقًا يمتد من الأرض إلى العشق مرورًا إلى العلياء حيث لا مكان للجبناء ؛ من هنا مروا على عجل يحملون أرواحهم على أكفّهم ، وهنا أو هناك امتزجت دمائهم بترابهم ، ومن خلفهم كان الصبر أكبر من الهزيمة ، وكان أكبر من ضربات القهر ؛ وقسوة الفسفور ، وغدر القريب والبعيد ، كان لهم و للعزيمة صوتٌ لا يقهر ، وكان للفجر حلمًا حقيقيًا لم يكذّب الرؤيا التي تقول ؛ فوق تلك الأرض وُلد رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه .
فوق تلك الأرض كان للحلم قضية ، وكان للأمل منذ قرن ونيف حكايات كتبت بالدم الأحمر ، فوق أرض خضراء ؛ كان لبياض قلوب أصحابها قصة طويلة مع الزمن ، تحكي عن قهرنا لسواد ليل حاول وما زال أنْ يرخي سدوله على أفئدة أطفال ونساء ورجال وشيوخ رفضوا التسليم بواقع لم يكن يومًا إلا وهما ، و لم يكن إلا من صنع أشباه رجال أرادوا من وخلال صفقة مشبوهة مع الوهن أنْ يروّجوا له كبضاعة وحيدة لعصر متخم بشعارات النفاق والتآمر والخذلان .
فوق تلك الأرض كان للحب قصة مع التضحية ، وكان للأمنيات موعدًا مع اللا المستحيل ، من يقهرني وأنا ابن تلك الأرض العصيّة على الخنوع والاستسلام للغرباء ؟ من يقهرني وأنا ابن تلك القبة التي ما زالت تفخر بي وأفخر بها ؛ وحيدين وإنْ يكن ؛ فلا نبالي بمن خذلنا إذا ما اهتدينا ، وحيدين أنا الأرض وأنا ابنها ، ما زلت صامدًا ومقاومًا رغم مرور الموت بيني وبيني صباح مساء ، رغم فقدان الأحبة وألم الفراق ، وهذا الدمار الكبير فوق أرضي ، ما زلت صامدًا في كل بقاع الأرض ؛ من غزة هاشم مرورًا إلى قلب كل عربي مسلم وكل حرّ شريف ، ما زلت أقاوم ، فانتظرني يا صباحي ، انتظرني يا عدوي " لئن أموت جوعًا أو عطشًا ؛ أحب إليّ من أنْ أخلف معك موعدًا ".