منتمٍ لهذا الزمن
بين رغبةٍ في الطيران ورهبةٍ من السقوط يغازل أفقا مجهولا يلمع مثل حبة ماسٍ بحجم الذَّرَّةِ، يغزل صِداراً منْ خيوطٍ مائيةٍ يمتَصُّها حرُّ الوجعِ، وعندما يستجيب لهاتفِ المنطقِ ويغمسُ ريشتَه في لونِ الطبيعة ليجسّدَ لوحتَه الخالدةَ على تلك الرقعةِ الحريريةِ التي ظلت طويلا حبيسةَ صندوقِ الودائعِ يصدمُهُ تيهُ اللونِ واقتحامُهُ الفضاءَ الأبيضَ وهو يندلقُ خارجَ الإطاراتِ المُحَدَّدَة. يتساءل عن مكمن الخللِ أهو في نوع الصباغة أم في نوعية القماش أم أن الأداةَ المُحَدِّدَةَ قد انحرفتْ عن مسارها.)
بين التأمل والريشة يمتدُّ فضاءٌ شاسعٌ من الفراغِ يتنازَعُهُ السؤالُ والحيرةُ الملتهِبَةُ، وترتفع الذعيرةُ عن نسمةٍ تتسلَّلُ لتُنعِشَ الذاكرةَ وتريحَ ذاك الهاجسَ المتَّقِدَ الباحثَ عن جوابٍ مُقْنِعٍ ....
في لحظةِ يقظةٍ عابرةٍ ينتفضُ انتفاضةَ عصفورٍ جريحٍ خانَهُ جناحاه وهو يراقِبُ سِرْبَهُ يحلِّقُ سعيدا برحلتِه الواعدةِ بعيشةٍ آمنةٍ.... تُحاصِرُهُ الهواجسُ، ويغدو غريبا في الطرقات يبحث عن ترجمان لخلجاته المتمردة وهو يرسم غصنَ الزيتون أو يلملم ريشَ حمامٍ مذبوحٍ على باب المدينة التائهة. أصفادٌ خفيةٌ تُقيِّدُ حركاتِه فتعجز جيوش النفس عن اختراقِ المدار المُسَيِّجِ للقلب الواهن .
ما زال يبحث عن نجمةٍ تلمع في عينِ يومٍ من أيامه الراكدةِ وعن سنبلةٍ عامرةٍ ينثرُ خيرَها خلسةً على الأرض المائدةِ . ولا يزالُ صدى سؤالِه الساذجِ يقضُّ المَضاجعَ: هل للفرح آذانٌ صاغية؟؟ ومتى يصبح للظلم وجهٌ يستحي من آفاته؟؟ وما بال الفراديس تعجز عن افتراسِ الأراذِلِ؟ عجبا !! لا يزال يفغر فاه مندهشا عندما تنحني الشياطينُ أمام فظاعةِ فِعلِ بني جلدتِهِ الآثمِ ؟؟؟
بين المجاز والحقيقة لا يزال الصراعُ يبحث عن بطلٍ ليضَعَ حدّاً لمتاهاتِه....وهو مازال يتفرَّجُ على الألمِ يُمزِّقُ ثوبَ الحريرِ المُمَدَّدَ ويمسخه بالألوان القاتمةِ، يستغرب وهو مَنْ سمحَ باغتصابِ بياضِهِ حتى ما عادت فيهِ بقعةٌ لبصيصِ ضوءٍ شاردٍ .....
سجن نفسه في جحيمِ انتظارٍ لا يَنتهي؛ فبقيَ محاصَرا ولا ملاذ له إلا التأمل على صخرة الوقت الثابتة، أو الهروب إلى القلم الرابِضِ خلف أحزانِهِ ليستأمنه على سره القاتل، ولثقل همومِه ينيخ القلمُ ويعجزُ عن جمع حروفٍ ليُدوِّنَ ملحمةَ لامعقوليةِ المكرِ والنذالة خاصة وأنّ لاشيء يُسعفه بِمبرِّرٍ لاِستسلامِ الأشاوسِ وترْكِهِم أرضَهُمْ/عرضهم في مُتناوَلِ مَنْ كان بالأمس مِن عبيدهم .... هكذا يخرس القلمُ وتُعْوِزُ اللغةُ اللسانَ لوصْفِ مَنْ يُسلِّمون ابنةً شرعيةً لم تكن يوما لئيمةً ولا انْدَسَّ في عرقها خائنٌ ولا غانيةٌ.
أَسيظلُّ في التيهِ غارقا أم أنّ النوارسَ النائحةَ باغترابِها قد تجعلُهُ يُدركُ قيمةَ حبّات الرمالِ الماسيةِ الصارِخة ....
يا أرضُ، يا جنةَ الأكارمِ اغفري لأذناب الشر فقد مات ضميرُهم وطَبَعَ النخاسُ وجدانَهُم بِسِمَةِ المَهانة، فلا هُمْ أحياء فيُرْجَوْنَ ولا هم أموات (1) نسكت عن زيفهم وزيغهم ....
وبعد كل هذا، ما زال يراقب تَوالِي المصائبِ، ويحلم، وهو في برجه العاجي، بإنقاذ العصفور الغارقِ في المستَنقَع الآسن ! ومع ذلك، ما دام قلبُه ينبض بالحب ويصبو لغرس الزيتون ورسم قبة المسجد الأعظم، فلن يستطيعَ أحدٌ، مهما حاولَ، أن يُصادِرَ حلمَه، وليس بإمكان أيَّةِ قوةٍ أن تحجبَ عنه قناديلَ الضوءِ الآتيةَ.....
من هنا، فقط ،يأتي العزاءُ: بشرى لكل صبورٍ قانِتٍ فالنصرُ، لا محالةَ قادمٌ، وسطوةُ الظلم، لا بدّ آفِلةٌ، والجلادُ، حتما، سيغرق في الوحلِ والحضيضِ الذي أنتجَهُ .....
.................................................. ..................................................
1اقتباس من الخنساء