شكلت رواية الطيب صالح "موسم الهجرة إلى الشمال" “Season of Migration to the North”معينا لا ينضب للبحث والدراسة فكانت وما تزال محور العديد من محاضرات الأدب المقارن , تجسد الرواية الصراع الإفريقي الأوروبي .تعد هذه الرواية من أهم روايات ما بعد الكولونيالية فهي تدرس في الأدب المقارن من خلال مقارنتها مع رواية كونراد "قلب الظلام" Heart of Darkness فكلا الروايتين تمثل الصراع الإفريقي الأوروبي أو ما يعرف بصراع الشرق والغرب صراع الشمال والجنوب .
ظهرت رواية"موسم الهجرة إلى الشمال" في منتصف الستينات وهي فترة شهدت تحرر إفريقيا من وطأة الاستعمار الأوروبي . مثلت هذه الرواية صرخة قد تكون صادمة للبعض لجرأة الطرح وقساوة بعض مشاهدها , فقد تضمنت الرواية مشهدي قتل يتضمنان تفاصيل قاسية لعملية القتل ,يتناول المشهدان قتل رجلين لنسائهما . صورت الرواية الصراع الإفريقي الأوروبي والانتقام من صورة المستعمر بطريقة مغايرة .
لكن هناك جانبا آخر لدراسة هذه الرواية من خلال مقارنتها بمسرحية شكسبير عطيل " Othello " مع مراعاة الفرق بين الجنسين الأدبيين فالموسم رواية وعطيل مسرحية . يتضمن كلا العملين أوجه شبه وقواسم مشتركة في عدة جوانب كالأفكار والحبكة وبعض المشاهد .
ورد اسم عطيل صريحا مرتين في رواية "موسم الهجرة إلى الشمال" في أول مرة ورد كان عبارة عن أداة سحرية لجلب إحدى الضحايا وهي ازابيلا سيمور فقد كان مصطفى سعيد _بطل الرواية_ يستخدم الحديث عن إفريقيا كأداة جذب لإيقاع النساء في شركه الذي نصبه . تساله ازابيلا "ما جنسك؟ هل أنت أفريقي أم آسيوي؟ قلتُ لها: أنا مثل عطيل. عربي أفريقي". ص 48 .المرة الثانية التي ورد فيها اسم عطيل كانت عندما قال مصطفى "أنا لستُ عطيلاً. عطيل كان أكذوبة","أنا صحراء الظمأ...لماذا لا تحكمون بشنقي فتقتلون الأكذوبة"نفى ان يكون عطيل لان عطيل كان مغيب العقل عندما وقع تحت تأثير خدعة دفعته لقتل زوجته ,بينما كان قتل مصطفى سعيد لنسائه سواء كان ذلك مباشرة أم بدفعهن للانتحار رمزا للانتقام من الاستعمار فهو يقول "أنا الغازي الذي جاء من الجنوب "ص 168.ألف مصطفى العديد من الكتب التي تتناول موضوع الاستعمار وهذا يوضح اثر الاستعمار في نفسه .
اوثيلو او عطيل في مسرحية شكسبير هو رجل إفريقي أتى إلى أوروبا مثله مثل مصطفى سعيد ,ولكن لم يتم تسليط الضوء على تاريخهما أو عائلتهما فمصطفى سعيد مثلا لم يتم التطرق إلى عائلته إلا في ذكر القليل عن أمه التي ظهرت بشكل بسيط في الرواية ويتابع الرواية دون أي ذكر لها وكأن قدومهما للاوروبا كان يمثل انسلاخا عن تاريخهما.
كلاهما كان متميزا في المجتمع الأوروبي ولكن بالرغم من ذلك لم ينصهرا تماما في المجتمع الأوروبي . فقد كان عطيل قائدا عسكريا محنكا بارعا حتى انه تفوق على الاوروببين في ذلك فقد كان البرلمان كان يلجأ إليه دوما في الظروف الصعبة . كان مصطفى من أكثر الطلاب تميزا بين أقرانه "كان أنبغ تلميذ في أيّامنا... معجزة في ذلك الوقت ، كان أشهر طالب في كلية غردون... نابغة في كلّ شيء ، لا يوجد شيء يستعصى على ذهنه العجيب. كان المدرسون يكلموننا بلهجة ويكلمونه بلهجة ، وخصوصاً مدرسو اللغة الإنجليزية ، كانوا كأنما يلقون الدرس له وحده دون بقية التلاميذ...نحن كنّا ننطق الكلمات الإنكليزية كأنها كلمات عربية. لا نستطيع أن نسكّن حرفيْن متتالييْن. أما مصطفى سعيد فقد كان يعوج فمه ، ويمطّ شفتيه ، وتخرج الكلمات من فمه كما تخرج من أفواه أهلها..".
كلاهما كان متحدثا بارعا استخدم سحر حديثه لاستمالة و استجلاب قلوب النساء.عطيل استجلب قلب ديزديمونا عن طريق أحاديثه عن مغامراته وعندما شعر والدها بتعلقها به وانزعج من ذلك لان عطيل اسود إفريقي, قال عطيل "أنا لم استخدم سحرا اسود لتحبني ولكنني حدثتها عن مغامراتي".كذلك كان حال مصطفى سعيد الذي كان يصطاد نسائه بالحديث عن إفريقيا "رويت لها حكايات ملفقة عن صحاري ذهبية الرمال وأدغال تتصايح فيها حيوانات لا حدود لها"ص41.فالصورة المتخيلة للرجل الإفريقي القوي في ذهن النساء الأوروبيات هي أول ما كان يؤدي لوقوع النساء في المصيدة , يقول مصطفى" ذخيرتي من الأمثال لا تنفد . شنى يعرف متى يلاقي طبقه . وأحسست بزمام الحديث في يدي ، كفنان مهره مطواع ، أشد فتقف ، أهزه فتمشي ، أحركه فتتحرك وفقاً لإرادتي ، إن يميناً وإن شمالاً ."
كان بيت مصطفى سعيد عالما شرقيا بامتياز يحتوي كل مقومات سحر إفريقيا من بخور وخشب الصندل مخطوطات عربية نادرة فكانت النساء تحبه كفكرة وليس كشخص فمن عرفت حقيقته منهن كرهته. يروي مصطفى على لسان إحدى نسائه "كانت عكسي تحن إلى مناخات استوائية، وشموس قاسية، وآفاق أرجوانية، كنت في عينيها رمزاً لكل هذا الحنين…كانت صيداً سهلاً" (ص. 169/170)
تتشابه أحداث العملين والحبكة . في كلا العملين يلعب المنديل أو"handkerchief" _الذي كان في عطيلأول هدية من عطيل لديزديمونا _ففي المسرحية تبدو معالم قصة المنديل واضحة بأنها كانت قصة ملفقة للتشكيك في زوجة عطيل .أما في الموسم فالقصة غامضة لم يتم ذكر مصدر المنديل و قصته يقول مصطفى سعيد :
"كنتُ أعلم أنها تخونني. كان البيت كلّه يفوح بريح الخيانة. وجدتُ مرّة منديل رجل ، لم يكنْ منديلي. سألتها فقالت: إنّه منديلك. قلتُ لها هذا المنديل ليس منديلي. قالت: هبْ أنه ليس منديلك. ماذا أنت فاعل؟"ص 170 فكان المنديل هو المحرك الرئيسي أو القشة التي قسمت ظهر البعير ودفعت الرجلين لقتل زوجاتهما .
تستقبل كلا المرأتين قدرهما باستسلام وكأنهما سعيدتين به لم تقاوما بل كانتا مستكينتين تماما . في المسرحية يخبر عطيل زوجته انه سيقتلها ويطلب منها أن تجهز نفسها فتتقبل قدرها دون مقاومة . أما جين موريس في رواية الطيب ظهرت لبؤة صعبة الترويض عصية المنال , كان كل لقاء بينهما عبارة عن نزال يخرج منه مصطفى سعيد خالي الوفاض وهو الرجل الشرقي الذي سبا عقول النساء كان أمامها أسدا مكسورا. ولكنها تحولت في مشهد قتلها إلى قطة وادعة مستكينة وكأنها كانت فرحة برجولته التي ثار لها .
في العملين حدث مشهد القتل في السرير واشتهر في العصر الإليزابيثي وجود مشاهد الخيانة والدراما العالية لتصوير هذه المشاهد. فعطيل بعد ان قتل زوجته جلس منتحبا عند السرير مستشعرا تأنيب الضمير .أيضا في رواية موسم الهجرة إلى الشمال قتل مصطفى جين في السرير ,حيث صور الطيب السرير تصويرا ملحميا رائعا يليق بهذا الانتقام , فشبه حواف السرير و كأنها ألسنة لهب حيث اجتمع العالم كله .
"قالت لي: أحبك – فصدقتها. و قلت لها: أحبك و كنت صادقا. و نحن شعلة من اللهب، حواف الفراش ألسنة من نيران الجحيم و رائحة الدخان أشمه بأنفي و هي تقول لي: أحبك يا حبيبي، و أنا أقول لها أحبك يا حبيبتي. و الكون بماضيه و حاضره و مستقبله اجتمع في نقطة واجدة ليس قبلها و لا بعدها شيء"ص 173