دخل يتسلل على أطراف أصابعه، اقترب من سريرها، تأملها على ضوء البهو الخفيف، هاله نحافة جسمها الحبيب، جلس على حافة السرير، و اقترب من وجهها... نفس الملامح الوديعة الأخاذة التي كانت تتأرجح بين البراءة الطفولية و الأنوثة الصارخة....كم أحب هاته الأسارير...
تمنى أن تفتح عينيها ليتأمل لمعانها العسلي المخضب بلون الزمرد...كان يعشق اكتشاف كل العوالم في تقلبات مزاجها عبر سحر مقلتيها.....كم أحَبًّ ابتسامتها وهي ترسم غمزات وجنتيها فتتدثر بندى الصباح و نسيم الليل و عبق الربيع... كم أحَبَّها و هي تسكن كيانه و تملأ حياته....
خفتت الأصوات في الغرفة المجاورة و ارتفعت غمغمات الزائرات:
" أتى أخيرا" ...
"الحمد لله...ربما تستفيق قليلا"....
"أكيد ستستفيق...لا يستطيع ايقاظها أحد غيره"....
اقترب أكثر من وجهها، لمس أنفاسها الهادئة....تذكر صوتها الناعم و هي تغني له بفرنسيتها الجميلة أغنية "جاك بغيل" لا تتركيني :
< " سأهديك لآلئ الأمطار
من بلدان لا يهطل فيها المطر
سأحفر الأرض حتى بعد موتي
لأغطي جسمك بالذهب و النور
سأبني مملكة
يكون الحب ملكها
يكون الحب قانونها
لا تتركيني
لا تتركيني..."
و تذكر كيف كانت تضحك حين تكمل ترنيمتها، و كيف كان يدرك انها تخفي دمعتها بضحكتها تلك و عبارتها الدائمة:
ـ أعرف أنها كلمات غير معقولة...لكنها تعجبني... >
طبع قبلة على جبينها، و كما هي أميرة قلبه... فتحت عينيها.... نظر إليها في حنو و هو يرى تقلبات سحر مقلتيها، تمر من عدم استيعاب حضوره إلى جانبها أوّلَ الأمر... ثم ظهور أول خيوط أشعة النور و كأنها تحاول أن تتذكره....و أخيرا انبلاج نور نهر عينيها العسلي و تلألأ زمرده...حينها انفرجت أساريرها عن ابتسامة خفيفة، باهتة، إلا أنها لم تمنع الغمزات من رسم طريقهما وسط أخاديد وجنتيها النحيفتين....
ـ تأخرت عني كثيرا...أين كنت؟؟ لماذا تغيب عني هكذا؟؟....ستبقى قربي؟؟
انكمش قلبه بشدة و قبل أن يجيب انفرجت أساريرها أكثر و زاد لمعان عينيها، و تحاملت على نفسها و هي تهم بالجلوس فأسرع ليساعدها برفق فائق كي لا يؤلم جسمها الهزيل....نظرت إليه :
ـ ما زلت تحب عينيَّ....
ـ جدا جدا ..... تعرفين أنني اخترت "سما" لأن عينيها مثل عينيك....
و قبل أن يكمل حديثه، رفعت يديها ببطء شديد و أخذت وجهه بين راحتيها الصغيرتين و قالت في عذوبة:
ـ جئت حبيبي...كيف كان يومك في المدرسة...أكملت غداءك كله؟؟؟....
ثم تأملته أكثر و استدارت تبحث عن شيء جانب وسادتها..أخذت علبة المناديل الورقية....و بيد ترتعش اقتربت بمنديل من شفتيه:
ـ كم مرة قلت لك لا تأكل الشوكولاته كثيرا، أنظر إلى وجهك و فمك....
رقّ قلبه لارتعاشة يديها و هي تمسح ما تراه آثار الشكولاته على وجهه...أمسكها و قبلَّها :
ـ حاضر ماما...لن آكل الشكولاته بعد الآن
ـ الله عليك حبيبي حين تنصت لكلام ماما...
ثم فجأة قضبت حاجبيها و هي تحملق في شعر رأسه:
ـ ما هذا الذي في شعرك...انتظر سأمسحه
لم يكن يدري ماذا تراءى لها أهي شعيرات الشيب الذي بدأ تبزغ... أم هو شيء آخر تتخيله.
توقفت و كأنها تعبت و أسقطت يدها ببطء و هي تحملق فيه ثانية...ثم خفت نظرتها... خطر له أنه يرى سحابة حزن تغطيها، قالت بنبرة أحسها حزنا دفينا :
ـ ستذهب ثانية؟؟ ستتركني...خذني في حضنك...ضمني إليك...
كاد أن يبكي، ابتلع ريقه و ضمها الى صدره، كان يتمنى لو استطاع أن يعصرها و يدخلها بين ضلوعها كما كان يفعل في السابق...
ـ تعرف إنك حبيبي و نوري....
ـ ماما....
و منعته الغصة في حلقه من الكلام، فرفعت رأسها من على صدره ...و قالت في تعب شديد:
ـ سأنام شوية حبيبي...
كانت خصلات شعرها الفضي قد انسابت على وجهها فرفعها ليتأملها:
ـ كما ترين ماما...ارتاحي...سأبقى إلى جانبك
ـ أعرف حبيبي...فأنا أشم رائحة عطرك كلما دخلت و هي تبقى حتى حين تغادر...أحس بوجودك....
و خفت الصوت و نامت كما وجدها حين دخل أول مرة....
************************************************** ****
كان يجلس على ركبتيه قرب السريرالفارغ ، يحدِّق في المكان الذي كان يشغله جسمها الهزيل...وصدى كلمات الطبيب ما زال يصرخ في أذنيه:"لقد وصلت الى المرحلة الأخيرة في مرض الزهايمر..."
رقت نظراته الجافة و هو يسمعها تقول:
ـ إبك حبيبي... إبك فالرجال يبكون و أنت رجلي الهُمام...إبك حبيبي
خديجة منصور
مارس 2012