الرؤيا
القصة كما رواها لي سنبل
روى لي " سنبل " هذه القصة: " الرؤيا"، في ليلة سادها جو حميم من الثقة. كان ذلك منذ ثلاثة أشهر، وقد رأيت في ذلك الوقت، أن ما رواه لي بقدر ما يتعلق الأمر به.
رواها بالبساطة الصريحة للإيمان، فلم استطع إلا أن اصدق. ولكني استيقظت صباحا في بيت جدي، ووجدت نفسي في جو مختلف.
تذكرت الأشياء التي رواها لي وأنا مستلق على السرير، وقد أزيل عنها سحر صوته الهادئ الجاد، وجردت من ضوء الطاولة المظلل المركز، ومن ذلك الجو الظليل الذي لفنا ومن الأشياء اللامعة السارة، الحلوى، الكؤوس، وغطاء الطاولة، ومناشف المائدة، في ذلك العشاء الذي تشاطرناه.
لقد جعل كل ذلك الأشياء التي حكاها تبدو حينا من الوقت عالما صغيرا متألقا لا يمت إلى الحقائق بصلة.
أما الآن فإني أرى أنها لا تصدق بالجملة.
قلت: كان يحكي ألغازا.
وقلت: لكم برع في ذلك، وهذا الأمر بالذات ، لم أكن أتوقعه فيه من بين جميع الناس.
وحين جلست بعدئذ على السرير لأحتسي القهوة ، وجدتني أحاول تفسير نكهة الحقيقة في ذكرياته المستحيلة.
افترضت أنها توحي على نحو ما، أو تقدم، أو تنقل- لا ادري أية كلمة اختار، تجارب لا يمكن أن تروى للآخرين إلا هكذا.
حسنا، لا بد أن ألتجئ إلى ذلك التعليل الآن، لقد تغلبت على شكوكي الطارئة، وتيقنت الآن كما تيقنت أثناء سماعي القصة، أن " سنبل" قد بذل قصارى جهده ليعري لي الحقيقة في سره.
ولست ادعي أنني قادر على أن أخمن ما إذا كان رأى ، أو إذا كانت له ميزة عظيمة ، أو انه ضحية أحلام غريبة.
إن وقائع جنونه الذي أنهى إلى الأبد أمام المتابعين على الأقل، أحلامه وشكوكه، لا تلقي أي ضوء على ذلك.
لذلك يجب على القارئ أن يحكم على هذا بنفسه
نسيت الآن أي تعليق أو نقد لي دفع ذلك الرجل المتحفظ إلى أن يأتمنني على أسراره، اعتقد انه أراد أن يدفع عنه تهمة التواني وانعدام الجدارة التي كانت قد وجهتها إليه حركة عامة كبيرة ، وقد خيب ظني في هذا، ولكنه خاض في الحديث فجأة:
- هناك ما يشغل بالي.
توقف قليلا ثم تابع: اعرف أنني كنت مهملا. ليست الأشباح والرؤى ما يستحوذ علي في الواقع، ولكن أمر غريب لا يرى، إنني مأخوذ، مأخوذ بشيء يسحب الضوء من الأشياء يفعمني بالأشواق.
أوقفه الكلام ،ذلك الحياء الذي نحسه نحن الشرقيون عندما نتحدث عن أشياء تختلج النفس ولا يهتم بها احد غيرك أنت.
قال: كنت في " اللاذقية" وطفت بها كلها.
بدا لي هذا الكلام غير متصل بالموضوع برهة من الوقت.
قال: حسنا، ثم توقف مرة أخرى، تلعثم في البداية، ولكن تيسر له الكلام في أخر الأمر، وبدأ يقص القصة ذلك الشيء المكنون في حياته، ذكرى الجمال التي اخذ بها، والسعادة التي ملأت قلبه أشواقا لا ترتوي، والتي جعلت جميع مصالح ومشاهد الحياة الدنيا تبدو باهتة ولا جدوى منها.
أما وقد حصلت على مفتاح ذلك اللغز الآن ، فإن ذلك السر يبدو مكتوبا بوضوح على وجهه فالصورة التي لدي قد حفظت تلك النظرة التي تعبر عن الاعتزال والانفصال، وكثفتها ذاكرتي ، ذكرتني الصورة مما قالت عنه المرأة التي هامت به فترة من الزمن: فجأة، يفقد الاهتمام بما حوله، وينساك، ولا يبالي بك احد، وأنت رغم انفه أنت.
ومع ذلك لم يكن "سنبل" يفقد الاهتمام بما حوله دائما، بل كان إذا ركز انتباهه على أي شيء ، يجد الوسيلة ليكون ناجحا للغاية، إن حياته في الحقيقة مكللة بالنجاح، لقد سبقني منذ زمن بعيد، وحلق عاليا، وبرز ونفذ حيث عجزت أن ابرز وأنفذ.
لقد كان في الخامسة والعشرين ، يقال الآن: كان يمكن أن يتسلم منصبا أرفع و أعلى في الحزب... لو انه لم يجن، كان يبتزني دائما في المدرسة، من غير عناء، كأنما كان ذلك شأنه بالطبيعة. قضينا سنوات الدراسة كلها معا في جامعة دمشق. لقد دخل المدرسة ندا لي، لكنه غادرها وقد تفوق علي، وتألق فيما نال من منح وفيما كرم به من حفلات رائعة.
ومع ذلك ، اعتقد أن معدلي في ذلك السباق كان لا بأس به.
كنت في المدرسة حين سمعت لأول مرة بقصة رؤياه، ولم اسمع بها مرة أخرى إلا قبيل جنونه.
إن ذلك الباب الذي في الجدار كان بالنسبة له على الأقل ، بابا حقيقيا يؤدي عبر جدار لا شك فيه إلى الحقائق الخالدة، أنا على أتم ثقة بذلك.
حدث ذلك في وقت مبكر من حياته، عندما كان صبيا بين الخامسة والسادسة من عمره. إني أتذكر الآن كيف كان يعد ويقدر التاريخ حين جلس ليفضي باعترافه لي بوقار بطيء. قال:
- تسلقت على الباب نبتة " ياسمين" صفراء اللون، كان كله في لون اصفر زاه، أما الباب الأخضر فقد انسكبت عليه أشعة الشمس الصفراء الصافية. هذا ما انطبع في ذهني على نحو ما ، مع أني لا اذكر كيف حدث ذلك تماما. وكان هناك أيضا أوراق بلوط على رصيف نظيف خارج الباب الأخضر، كانت الأوراق المبقعة بقعا خضراء وصفراء، أنت تعلم، لم تكن سمراء قذرة، لذلك ينبغي أن تكون حديثة السقوط. افهم من ذلك أن الشهر نوفمبر. إني ابحث عن أوراق البلوط كل سنة ، لذلك ينبغي أن اعرف.
كنت في الخامسة وأربعة أشهر ، إذا صح تقديري.
قال:
انه اكتمل نضوجه وهو صبي صغير، فتعلم الكلام على نحو شاذ في سن مبكرة، وكان متزنا يحبذ الأنماط القديمة، كما يقال، وقد أعطي حظا من المبادرة قلما حصل عليها الأطفال الذين بلغوا السابعة أو الثامنة. ماتت أمه وهو في الثانية، ووضع تحت رعاية زوجة أب مستبدة قليلة الحذر ، أما والده فقد كان محاميا صارما كثير الأعمال، أولاه القليل من الاهتمام، وتوقع أشياء عظيمة منه. وأظن انه وجد الحياة رمادية وباهتة رغم ذكائه ، فهام على وجهه في احد الأيام.
لا يذكر كيف أهمل، وتمكن من الفرار، ولا وجهة السير التي اتخذها وسط طرقات" اللاذقية". لقد تلاشى كل ذلك وسط غشاوات الذاكرة التي لا تشفى. أما الجدار الأبيض والباب الأخضر فإنهما يبرزان في أوضح صورة- وعلى حسب ما تنقل الذاكرة عن تلك التجربة الطفولية-، فإنه أحس عندما شاهد الباب لأول مرة، عاطفة من نوع خاص، انجذابا، رغبة في الاقتراب منه، وفتحه واجتياز عتبته. وفي الوقت نفسه، كان واضح الاقتناع بأنه من الطيش أو من الخطأ أن يستسلم للإغراء، وأصر على أن الباب كان غير مقفل ، وانه كان بإمكانه الدخول متى يشاء، أصر على هذا الأمر الغريب الذي عرفه من البداية، ما لم تكن الذاكرة قد احتالت عليه احتيالا منكرا.
لكأني أرى شخص ذلك الصبي الصغير وهو ينجذب وينفر، وقد اتضح – رغم أن سبب ذلك لم يوضح بعد – اتضح له أن أباه سيغضب إذا ما دخل ذلك الباب.
وصف لي " سنبل" لحظات التردد هذه وصفا بالغ الدقة ، مشى محاذاة الباب تماما، ثم راح يتجول كالمتنزه إلى أن وصل إلى ما وراء طرف الجدار وقد وضع يديه في جيبيه وهو يحاول الصفير كالكبار، يذكر انه رأى عددا من الحوانيت القذرة الحقيرة هناك، وخاصة حانوت الخضار وحانوت الألبان بما فيها من حليب مسكوب على الأرض والذباب الذي يحوم فوقه، وبراميل الحليب والأغطية وأكداس من الأوراق القذرة والمكايل.
وقف وكأنه يتفحص الأشياء، الباب الأخضر هو ما يشتهي ويرغب به رغبة شديدة.
قال: انه أحس بانفعال شديد عندئذ، وركض صوب الباب قبل أن يستحوذ عليه التردد ثانية، ودخل مباشرة ويداه مبسوطتان، ثم تركه ينغلق خلفه.
وما هي إلا لحظات حتى وجد نفسه في الحديقة ، التي ستنتابه صورته طوال حياته.
كان من الصعب على" سنبل" أن ينقل لي إحساسه الكامل بالحديقة التي دخلها.
كان هناك شيء ما في ذرات الهواء ينعش ويشعر الإنسان بالخفة والأحداث الطيبة والسعادة، وكان هناك شيء ما في مشهدها يجعل لونها نقيا وخالصا ولطيف الإضاءة ،وحالما يدخلها المرء يبتهج ابتهاجا عارما ، كما يحدث في لحظات نادرة فقط وعندما يكون الإنسان صغيرا مرحا يستطيع أن يبتهج في هذا العالم. كل شيء كان جميلا.
استغرق" سنبل" في التفكير قبل أن يواصل روايته لي، قال بصوت المرتاب الذي يتوقف عندما لا يصدق:
- أنت...ترى كان هناك نمران لم اخف...اجل، نمران أرقطان، لم اخف. وكان هناك ممر طويل عريض يحف به حوضان من زهر، حافاتها من مرمر ، والوحشان الضخمان الناعما الملمس يلعبان بكرة فيه. نظر احدهما إلي و أتى نحوي، بدا هذا غريبا إلى حد ما، أتى مباشرة إلي ومرر أذنه الناعمة المستديرة في رقة فوق يدي الممدودة إليه، وصار يكركر.
كانت حديقة مسحورة، اعلم ذلك، وها أنا أخبرك، والمساحة؟ أواه، كانت واسعة الأرجاء واعتقد أن هناك تلالا في أطرافها البعيدة، والله يعلم أين بدأت " اللاذقية"، ولكن شعرت كأنني عائد إلى البيت، أنت تعلم انه في اللحظة التي انغلق فيها الباب خلفي، نسيت الطريق وأوراق البلوط الساقطة علي، والمركبات وشاحنات التجار، ونسيت ذلك النوع من القوة الجاذبة التي تشد المرء إلى الطاعة وانضباط البيت، ونسيت التردد والخوف والاحتراس، وكل حقائق الحياة المألوفة.
أصبحت في لحظة سعيدة جدا: صبي صغير رائع الفرحة في عالم آخر، عالم مختلف الصفة، الضوء فيه أدفء وأنفذ وألطف ، وهناك بهجة نقية خافتة في هوائه، وخصل من غيمة لمستها الشمس في زرقة سمائه، ويمتد أمامي هذا الممر الطويل العريض، مغريا إياي بأحواض الزهر النامي بلا رعاية على جانبيه، وبهذين النمرين الهائلين.
وضعت يدي بدون خوف على فروهما الناعم، ودغدغت آذانهما المستديرة والزوايا الحساسة التي تحت الأذن، ولعبت معهما، وكانا كأنما يرحبان بي، استقر في ذهني إدراك عميق أني في البيت، وعندما ظهرت فتاة هيفاء جميلة في الممر، لقيتني باسمة وقالت لي:
- " حسنا"
وحملتني وقبلتني ثم أنزلتني وقادتني ، عند ذلك لم يكن هناك ما يذهل أو يشد، بل كان هناك انطباع سار، وتذكير لي بأشياء سعيدة كانت قد أغفلت على نحو غريب.
كان هناك درج عريض احمر، اذكر ذلك، رأيناه وسط عناقيد الزهر الأزرق، صعدناه ورحنا نمشي في شارع عريض بين أشجار عتيقة داكنة، توسط جذوعها المشققة الحمراء مقاعد من رخام وتماثيل، وحمام ابيض وأليف جدا...
قادتني صديقتي عبر هذا الشارع الظليل، وحين اطرق في الأرض، أتذكر الخطوط اللطيفة وذقنها الجميل التكوين، ووجها الحنون العذب، وهي تسألني في صوت سائغ خفيض، وتخبرني عن أشياء سارة اعرفها، مع أني لا استطيع أن أستعيدها أبدا... وفجأة هبط قرد نظيف، فروه بني اللون ، وعيناه العطوفتان بلون البندق، هبط من شجرة واتجه نحونا، ركض إلى جانبي، واخذ ينظر إلي ويكشر عن أسنانه مبتسما، ثم قفز على كتفي، وهكذا واصلنا السير في سعادة عظيمة.
توقف عن الكلام فقلت:
- تابع.
أتذكر أشياء ضعيفة اللون، مررنا برجل عجوز يتأمل وسط شجيرات الغار، واذكر أننا اجتزنا مكانا فرش بالخشب المزخرف ، وعبر صفين من الأعمدة الظليلة إلى قصر فسيح بارد، فيه الكثير من النوافير الرائقة والأشياء الجميلة وكل ما يرضي رغبات القلب.
وكان هناك أشياء كثيرة وبشر كثر ما يزال بعضهم يمثل في الذهن بوضوح، أما البعض الآخر شابه الغموض، إلا أن أولئك البشر كانوا جميعا وسيمين ولطفاء، ولا ادري كيف وصلني أنهم حنوا علي، وفرحوا بي، فاغتبط قلبي من إشاراتهم ولمس أيديهم، ومن الترحيب والحب الذي رأيته في أعينهم ، اجل...
تفكر" سنبل" لحظة ثم استأنف روايته:
وجدت أترابا هناك، وكان هذا يعني الكثير بالنسبة لي ، وذلك لأني كنت وحيدا. لعبوا ألعابا سارة في فناء غطاه العشب حيث انبسطت مرجه من الأزهار، وكما يلعب الإنسان فكذلك يحب.
ولكن – شيء شاذ – هناك فجوة في الذاكرة، لا اذكر الألعاب التي لعبوها، لم أتذكرها قط.
فيما بعد ، قضيت أنا الطفل، ساعات طويلة أحاول، ودمعي يسيل ، أن استعيد شكل تلك السعادة، أردت أن العبه كلها ثانية في حجرتي وحدي، لا، إن كل ما اذكره هو السعادة، اثنان عزيزان من أترابي رافقاني كثيرا، بعد ذلك أطلت توا امرأة سمراء كئيبة، كان وجهها شاحبا، وعيناها حالمتين، كانت امرأة كئيبة، ترتدي ثوبا طويلا رقيقا بلون الأرجوان الشاحب، تحمل كتابا، أومأت إلي وأخذتني معها إلى رواق فوق بهو، انزعج أترابي من ذهابي، أوقفوا لعبهم ، وراحوا يراقبوني وأنا ابتعد عنهم.
- عد إلينا ، عد إلينا.
هكذا صرخوا لي، فنظرت إلى وجهها ورأيتها غير مبالية بهم أبدا، كان في وجهها رقة ووقار... أخذتني إلى مقعد في الرواق، ووقفت أنا بجانبها متأهبا للنظر إلى الكتاب الذي فتحته على ركبتها، بانت الصفحات، أشارت، فنظرت إذ أني رأيت نفسي في تلك الصفحات الحية، إنها تروي قصة حياتي منذ الولادة...
كان الكتاب شيئا عجبا، إذ انه لم يكن كتاب صور، أتفهم ؟ بل كتاب حقائق... توقف " سنبل" في وقار ناظرا إلي بارتياب.
قلت:
- تابع، إني افهم
- اجل ...كانت حقائق، لا بد أنها كانت حقائق، فالناس والأشياء كانت تتحرك، تأتي، تدخل، أمي الحبيبة التي لم انسها قط، ثم أبي العابس المنتصب القامة، زوجة أبي، وغرفة نومي، وجميع أشياء المنزل، زد على ذلك البوابة، والشوارع المزدحمة، وحركة السير التي لا تتوقف.
نظرت، وأخذني العجب مما رأيت، ونظرت ثانية إلى وجه المرأة في شبه شك، وقلبت الصفحات واحدة بعد أخرى لأرى أكثر ما يمكن منها، إلى أن رأيت نفسي أخيرا أحوم وأتردد خارج الباب الأخضر الذي في الجدار الأبيض الطويل، فشعرت مرة أخرى بالصراع والخوف.
- ثم ماذا؟
صرخت، ووددت متابعة تقليب الصفحات، ولكن المرأة الرزينة صدتني بيدها الباردة قليلا.
- ثم ماذا؟
أصررت وقاومت يدها في رفق، وحاولت تخليص الكتاب من بين اليدين بكل ما امتلك من قوة , ما أن استسلمت، وانقلبت الصفحة، حتى انحنت فوقي كالظل وقبلتني على جبهتي، إلا أن الصفحة لم تظهر الحديقة المسحورة ، ولا النمرين ، ولا الفتاة التي قادتني، ولا أترابي الذين انزعجوا من أنهم تركوني اذهب، بل أظهرت شارعا مغايرا طويلا في " اللاذقية" في ساعات العصر الباردة قبل أن تضاء المصابيح، وكنت هناك ، صبيا صغيرا بائسا، ابكي بصوت عال رغم كل ما فعلت لاقف بنفسي عند حد، كنت ابكي لأنه ليس بإمكاني العودة إلى أترابي الذين نادوني: عد إلينا، عد إلينا حالا، كنت في الشارع، ولم يكن هذا صفحة بالكتاب ، بل حقيقة قاسية.
ذلك المكان المسحور، والمرأة الرزينة التي صدتني يدها والتي وقفت حذاء ركبتها، قد اختفيا ، أين اختفيا؟
توقف ثانية ، وبقي مدة يرنو إلى النار ، ثم غمغم قائلا:
- آه ما افجع تلك العودة.
قلت بعد دقيقة: حسنا.
كم كنت بائسا مسكينا، أعدت إلى هذا العالم الباهت، إني استسلم إلى حزن طاغ كلما تحققت مما حدث، ومازلت أحس بالخجل والخزي من بكائي يومئذ أمام الناس، ومن عودتي الشائنة إلى البيت، وارى بالخيال ذلك الرجل العجوز الخير بنظارتيه المذهبتين، حين لكزني بالعكاز، وقال:
- " أيها الغلام المسكين ، أنت ضائع إذن"؟
وأنا الفتى ذو الخامسة وأكثر، ينبغي أن يكون احضر شرطيا شابا رحيما، وجمع الناس حولي، وسار بي إلى البيت، وعدت من الحديقة المسحورة إلى درجات منزلنا مرتاعا نائحا على نحو مزر.
تلك هي – حسبما أتذكر – رؤيا الحديقة ، الحديقة التي مازلت مأخوذا بها، وبالطبع ليس بوسعي أن اصف ما لا يوصف من عالم الخيال الشفاف ، ذلك العالم المختلف عن أشياء التجربة العادية والذي يحيط بنا جميعا، ولكن هذا ما حدث، إذا كان ذلك حلما فهو من أحلام اليقظة، غريب وغير عادي في مجمله... ومن الطبيعي أن يتبع ذلك أسئلة مرعبة من عمتي، وأبي، وزوجة أبي، والمعلمة، والآخرين....
حاولت أن اخبرهم بما رأيت ، فجلدني أبي لأول مرة جزاء ما ألفق من أكاذيب، وعندما أخبرت عمتي فيما بعد، عاقبتني مرة أخرى على إصراري الشرير، إلا أن الجميع منعوا من الإصغاء إلي بعدئذ، كما قلت، ومن سماع أية كلمة عن الحديقة، وحتى كتب حكايات الجن أخذت مني فترة من الزمن، لأني" خيالي" جدا، اجل ... فعلوا ذلك ، كان أبي من أتباع المدرسة السلفية... وردت قصتي لي وحدي، همست بها إلى الوسادة ، الوسادة التي كانت دائما رطبة ومالحة تحت شفاهي الهامسة من دموعي الطفولية.
وكنت دائما أضيف إلى أدعيتي، التي تنقصها الحماسة، هذا الرجاء الصادر من القلب:" من فضلك يا رب، دعني احلم بالحديقة، أوه ، خذني إليها ثانية، أعدني إلى حديقتي"، كانت أحلام الحديقة تراودني دائما ، قد أكون أضفت أو غيرت فيما قصصت عليك، لا اعلم... وما هذا؟ أنت تعرف، إلا محاولة لتركيب تجربة مبكرة جدا من الذكريات المجزئة، هناك فجوة بين هذه الذكرى وذكريات طفولتي المتعاقبة الأخرى ، التي مرت بي وقت تصورت انه من المستحيل التحدث عن تلك الرؤية العجيبة ثانية.
سألته سؤالا واضحا، فقال:
- لا .. لا أتذكر أني حاولت أن أجد الطريق إلى الحديقة في تلك السنوات المبكرة، إن هذا الأمر يبدو غريبا الآن، ولكني أظن أنهم راقبوا تحركاتي مراقبة شديدة بعد هذه التجربة المريرة، لكي يحولوا دون أن أضل طريقي، لا لم ابحث عن الحديقة إلا حينما عرفتني.
واعتقد أنني نسيت الحديقة بالإجمال فترة من الزمن – من الصعب تصديق ذلك الآن -، عندما كنت في الثامنة أو التاسعة، أتذكرني وأنا صغير في ساحل " اللاذقية"؟
لا أذكرك جيدا.
لم أكن ابدي ما يدل على حلمي المكتوم في تلك الأيام، أليس كذلك؟
تطلع إلى الأعلى وابتسم فجأة.
- ألعبت معي لعبة الممر الشمالي الغربي؟ لا ، لم التق بك طبعا.
وتابع " سنبل " حديثه: كانت اللعبة من النوع الذي يلعبه الأطفال الخياليون طيلة النهار وفحواها اكتشاف الممر الشمالي الغربي للمدرسة، إن الطريق إلى المدرسة واضح تماما، واللعبة تتضمن البحث عن طريق آخر غير واضح، كنت انطلق قبل عشر دقائق ، وأهيم على وجهي في الغالب واشق الطريق عبر الشوارع التي تبدو غير مطروقة إلى هدفي، وقعت ذات يوم في شرك وسط طرقات سيئة على الجانب الآخر من " حارة الصيادين" ، وبدأت أفكر في أن اللعبة ستؤخرني عن المدرسة هذه المرة، مشيت، وقد انتابني شيء من اليأس، في شارع بدا مغلقا، ولكني وجدت ممرا في أخره ، فأسرعت وقد تجدد أملي. قلت :" سألعبها مرة أخرى" ، مررت بصف دكاكين زرية المنظر، صغيرة مألوفة، آه ... انظر، ذاك هو الجدار الأبيض الطويل والباب الأخضر الذي يؤدي إلى الحديقة المسحورة، كأني تلقيت ضربة قوية على حين غرة، وإذن، ها هي ذي الحديقة أخيرا، الحديقة المدهشة، ألم تكن حلما؟.
توقف "سنبل"
اعتقد أن تجربتي الثانية مع الباب الأخضر تعين الحد الفاصل بين حياة الطالب العملية وفراغ الطفولة اللامحدود ، على أية حال ، لم أفكر في الدخول هذه المرة- أنت ترى... والسبب هو حرصي الشديد على الوصول إلى المدرسة في الوقت المحدد، وعدم خرق سجل مراعاتي للمواعيد، ينبغي أن أكون شعرت بالرغبة في اختبار الباب... اجل... ينبغي أن أكون شعرت بذلك، ولكن يبدو أني أتذكر إغراء الباب ، في الأغلب، كعائق أمام عزمي القوي على الوصول إلى المدرسة.
لشد ما أمتمعني، الاكتشاف، وبالطبع تابعت سيري.
لم أتوقف، بل استحوذ التفكير فيه علي، ولكني تابعت سيري ، لم أتوقف بل ركضت مارا به ونظرت إلى ساعتي ووجدت أن هناك مهلة عشر دقائق، وبعد أن انحدرت صوب بيئة مألوفة، وصلت المدرسة لاهثا ، صحيح ، وقد سال عرقي، ولكن في الوقت المحدد.
أتذكر وأنا أضع حقيبتي ... مررت بها وتركتها ورائي، هذا تصرف شاذ، أليس كذلك؟
نظر إلي متمعنا ، بالطبع لم اعرف وقتئذ أنها لن تكون هناك دائما. إن الطالب محدود الخيال، اعتقد أني كنت شديد الفرح من كونها هناك، ومن معرفتي طريق العودة إليها، إلا أن المدرسة كانت تشدني إليها.
أتوقع أني بقيت في ذلك الصباح ذاهلا شاردا، وأنا أتذكر ، قدر الإمكان ، ذلك النوع الغريب الجميل من الناس الذين سأشاهدهم ثانية عما قريب.
من الأمور المستغربة أن لا يراودني شك في أنهم سيفرحون بي..اجل، ينبغي أن أكون فكرت في الحديقة في ذلك الصباح كما أفكر في أي مكان بهيج يمكن أن ألجئ إليه في الفترات الفاصلة بين أعوام الدراسة الشاقة.
لم اذهب يومئذ إلى الحديقة، ومن حسن حظي أن اليوم التالي كان شبه عطلة، ولربما ألقت حالت الذهول أعباء ثقيلة علي أيضا ، وقصرت المدة التي كانت تلزمني للجولة ، لا اعرف ، ما اعرفه أن الحديقة أرهقت عقلي في تلك الأثناء ، ولم استطع الاحتفاظ بها لنفسي .
أخبرت.. ما اسمه؟ كان شابا قميء المظهر، كنا ندعوه:"خنفس"، قلت: " رباح"
اجل " رباح " ، لم اخف من إخباره بما رأيت، شعرت أن في ذلك مخالفة للقواعد، إلا أني فعلت، كان يماشيني قسما من الطريق إلى بيتي، كان ثرثارا ، ولو لم نتحدث عن الحديقة المسحورة لتحدثنا عن شيء آخر، وكان التفكير في غير هذا الموضوع أمرا لا يطاق من قبلي، لذلك بحت له بسري.
حسنا ، لقد أذاع ذلك الشاب سري، وفي اليوم التالي، وبينما نحن في فترة اللعب ، إذ حدق بي ستة أولاد كبار دفعهم الفضول إلى سماع أخبار أكثر عن الحديقة المسحورة مما سبب لي شيئا من المضايقة – كان بينهم" عمار الكبير"، ألا تذكره؟ و " رامي" و " سعيد وصيف" ، لم تكن أنت معهم، لا...، قال: أني كنت سأتذكر، إن الصبي مخلوق ذو مشاعر غريبة، فقد كنت حقا رغم اشمئزازي الخفي، مسرورا باهتمام أولئك الصبيان الكبار بي. واذكر، خصوصا، ثناء" سمير"، وما بعث في نفسي من الفرح، أنت تذكر " سمير " المتفوق ؟ ابن عازف العود. لقد قال : إنها أفضل كذبة سمعها في حياته، ولكن كان هناك في الوقت نفسه إحساس عميق بالعار، مؤلم حقا، سببه الإفشاء بما كنت أراه بالفعل سرا مقدسا. إن " عمار الكبير" ذلك البهيمة، قد روى نكتة عن الفتاة ذات الثياب الخضراء...
انخفض صوت" سنبل" من تذكر ذلك العار. قال: تظاهرت بأني لا اسمع، وفجأة لقبني " رامي " بالكذاب الكبير، وجادلني عندما قلت : أن ما ارويه صحيح. قلت: اعرف الطريق إلى الباب الأخضر، واستطيع أن أقودهم جميعا إليه في عشر دقائق. تحول " رامي" فجأة إلى صبي فاضل على نحو شنيع، قال: انه يتوجب علي ذلك لأؤكد أقوالي أو ألاقي جزائي.
هل لوى " رامي" يدك في إحدى المرات؟ إذن ستفهم كيف جرت الأمور معي ، حلفت أن القصة صحيحة، لم يكن في المدرسة عندئذ من ينقذ أي فتى من " رامي "، مع أن " سمير" كان يستعطفه أحيانا. ربح " رامي " اللعبة، فانفعلت، واحمرت أذناي، وخفت، تصرفت كالصبي الأبله تماما، وكانت حصيلة ذلك هي أني قدت مجموعة من زملاء المدرسة المتهكمين الفضوليين المهددين إلى الحديقة المسحورة بدلا من أن انطلق إليها وحدي. وقد توردت وجنتاي خجلا، وحمت أذناي ، وآلمتني عيناي، شعرت بالبؤس والعار يكويان روحي.
لم نجد الجدار الأبيض والباب الأخضر.
- أتعني...؟
- اعني أنني لم استطع أن أجد الحديقة، ليتني استطعت ذلك، وكلما تمكنت من الذهاب وحيدا فيما بعد، عدت دون أن اعثر عليها قط، لم اعثر عليها. يبدو لي الآن أنني كنت ابحث عنها وأنا طالب، إلا أني لم أجدها ، لم أجدها قط.
- وهل أذاك زملاؤك ؟
- أساؤا لي كثيرا ، فقد عقد " رامي " مجلسا ناقش الموضوع في إفراطي بالكذب، واذكر كيف انسللت إلى البيت، وصعدت الطابق العلوي ، مخفيا آثار انتحابي، ولكن عندما أتعبني البكاء أخيرا ، علمت أنني لا ابكي على فعل " رامي " بي، بل على الحديقة ، والظهيرة الجميلة التي أملت بها، وعلى المرأة الصديقة العذبة، وعلى أترابي المنتظرين، وعلى اللعبة التي تمنيت أن العبها ثانية، تلك اللعبة الجميلة المنسية.
اعتقد اعتقادا قويا أنني لو لم اخبر .... مرت بي أوقات سيئة بعد ذلك، فكنت ابكي في الليل، واستسلم للأوهام في النهار، وأهملت دراستي خلال فصلي السنة، وكانت التقارير عن سير عملي السيئ. هل تذكر؟ لا بد انك تذكر، فقد كنت أنت من أعادني إلى سابق جهدي، حين تفوقت علي في الحساب.
رنا صديقي حينا من الوقت في صمت إلى قلب النار الأحمر، ثم قال : لم أر الباب مرة أخرى إلا حين بلغت الثامنة عشرة.
ظهر أمامي للمرة الثالثة... كنت اندفع نحو الباص في طريقي إلى الجامعة التي حصلت على منحة للدراسة فيها. لمحت الباب لمحة مؤقتة ليس غير، كنت أدخن سيجارة وأنا متكئ على حافة النافذة ، كنت أفكر ، دون شك، إنني رجل واسع الخبرة إلى حد بعيد ، وفجأة رأيت الباب ، الجدار، فأيقظا في نفسي الإحساس بالأشياء التي لا تنسى ولا تنام ، مرت لحظة غريبة علي ، توزعت حركة إرادتي نوازع مختلفة أثناء ذلك، قرعت نافذة الباص، ثم نظرت في ساعتي . قال السائق في عجلة : نعم يا أستاذ، قلت في صوت عال:
- آ ... حسنا... لا شيء... إنها غلطتي... ليس لدي الوقت الكافي ، تابع ، وتابع السائق سيره...
حصلت على منحتي الدراسية، وقضيت الليلة التي تلت ذلك قرب المدفأة في غرفتي الصغيرة العليا، غرفة معيشتي في بيتنا في دمشق ، كان أبي هناك وراح يكيل لي المديح، مديحه النادر، ويسدي لي نصائحه الثمينة التي كانت تدوي في آذاني، تناولت غليوني- كلب المراهقة المفضل- ودخنت ، فكرت في ذلك الباب الذي في الجدار الأبيض الطويل. فكرت: " لو وقفت لخسرت المنحة ، خسرت الجامعة، ولاضطرب ذلك المصير الجميل الذي ينتظرني، ها أنا ذا أرى الأشياء على نحو أفضل"، استغرقت في التفكير ، غير أني لم اشك عندئذ في أن مصيري هذا يستحق التضحية.
إن أولئك الأصدقاء الأعزاء، وتلك الأجواء النقية، يبدون لطافا ورائعين إلا أنهم بعيدون، كانت قبضتي تحكم الإمساك بالعالم وقتئذ فلقد رأيت بابا آخر يفتح، هو باب مصيري .
حدق " سنبل" إلى النار ثانية ، أبان الضوء الأحمر ما ارتسم على محياه من قوة عنيدة إلى لحظة، وتلاشت ثانية.
تنهد وقال : اجل .. لقد خدمت ذلك المصير، عملت الكثير، عملت عملا شاقا، ولكني حلمت بالحديقة المسحورة آلاف المرات، ورأيت بابها، أو لمحته على الأقل، أربع مرات منذ ذلك الوقت . اجل.. رأيته أربع مرات، ظل العالم، حينا من الوقت، براقا وممتعا، وكان يبدو مفعما بالمعنى والفرص، وكان سحر الحديقة شبه المتلاشي يبدو وبالمقارنة معه، رقيقا وبعيدا، من يرغب في دغدغة النمور وهو ماض إلى السهر بصحبة نساء جميلات؟ وصلت " حلب " أتيا من " دمشق" رجلا تعهد أن يسترد شيئا ما ، شيئا ما ، ولكن سعيه خاب.
وقعت في الحب مرتين – لن أطيل الكلام عن ذلك- إلا إني قصدت مرة إحداهن، وكنت اعلم أنها تشك في جرأتي، واعتسفت الطريق إليها في مجازفة عبر شارع مجهول قرب" القلعة" فإذا بي اعثر بالمصادفة على جدار ابيض وباب اخضر مألوف.
قلت في نفسي غريب، ولكن اعتقدت أن هذا المكان يقع في " اللاذقية"، انه المكان الذي لم استطع أن اعثر عليه بأية طريقة، مكان الحلم الغريب الذي حلمت به، في ذلك الأصيل لم يغرني ذلك الباب.
شعرت بالرغبة في اختبار الباب إلى لحظة ، كان الأمر يحتاج إلى ثلاث خطوات في الأغلب، وكنت على أتم الثقة في انه سينفتح لي، ولكني فكرت أن في ذلك ما يؤخرني عن ذلك الموعد الذي تورطت به، أسفت فيما بعد على مراعاتي المواعيد بدقة، كان بوسعي أن استرق النظر وألوح باليد للنمرين، إلا أني عرفت، حينذاك، تمام المعرفة انه ينبغي أن لا أعيد البحث بعد فوات الأوان عن شيء لم أجده في المرة الأولى، اجل... لقد حزنت في ذلك الوقت حزنا شديدا..
ومرت أعوام من العمل الشاق بعد ذلك دون أن المح الباب، إلا انه عاد إلى الظهور في الآونة الأخيرة، وعاد معه الإحساس كأن شيئا ما رقيقا قد انتشر على عالمي وافقده بريقه. وبدأت أفكر في انه لأمر محزن ومرير أن أرى ذلك الباب ثانية إلى الأبد، ربما كنت أعاني قليلا من العمل الإضافي وربما كان السبب ما سمعت الناس يتحدثون عنه من مشاعر الإنسان في الشباب، لا ادري غير انه من المؤكد أن البريق الشديد الذي يسهل المسعى قد زال عن الأشياء في الآونة الأخيرة وقد حدث ذلك – إلى جانب التطورات السياسية الجديدة – حدث عندما كان علي أن اعمل ، أمر غريب، أليس كذلك؟
ولكني بدأت حقا أجد الحياة متعبة، واجد مكافأتها رخيصة حالما اقترب منها، لذلك بدأت، منذ مدة وجيزة أحس بالحاجة الماسة إلى الحديقة ، اجل... وقد رأيتها ثلاث مرات.
- رأيت الحديقة؟
- لا.. الباب، ولكن لم ادخل.
اتكأ " سنبل" على الطاولة ومال نحوي، وقد نم صوته عن الحزن هائل وهو يتكلم.
سنحت لي الفرصة ثلاث مرات، ثلاث مرات، إذ عرض ذلك الباب نفسه علي ثانية، اقسم أني سأدخله واخرج من هذا الغبار وهذا الحر وهذا البريق الجاف الخيلاء وهذه الأتعاب الذاهبة سدى، لأدخله ولا أعود، سأبقى هذه المرة... قسما سأبقى... وعندما حان الوقت، لم ادخل...
مررت ثلاث مرات بذلك الباب في سنة واحدة وفاتني الدخول ثلاث مرات في السنة الماضية، كانت المرة الأولى في الليلة التي اشتد فيها الخلاف مشروع حول البرنامج السياسي ، حيث علا الصراخ والزعيق وكاد الاجتماع أن يفشل. أتذكر؟ لم يتوقع احد من جانبنا – ربما القليل من الجانب الآخر- لم يتوقع أن تنتهي الأمور هكذا تلك الليلة، وانهارت المناقشات مثل قشر البيض، كنت أنا و" عدنان" نتعشى مع عمه في بيته، حين دعينا بالهاتف أنا و" عدنان" فانطلقنا على الفور في سيارة عمه وصلنا بشق النفس في الوقت المحدد. وفي الطريق مررنا بالباب والجدار- بديا غريبين في ضوء القمر-، وقد علتهما بقع صفراء حارة كشفتها أضواء سيارتنا، ولكنهما كانا واضحين. صرخت: يا إلهي ؟ قال " عدنان " :
- ماذا جرى ؟
أجبته: لا شيء، ومرت تلك اللحظة.
أخبرت " عدنان " حين نزلت من السيارة: لقد ضحيت تضحية عظيمة. قال: الجميع ضحوا ثم انطلق مسرعا.
لا ادري كيف كان يمكن أن افعل غير ما فعلت... المناسبة الثانية كانت حين اندفعت إلى سرير أبي، ذلك العجوز الصارم، لأودعه، وفي ذلك الوقت أيضا، كانت مطالب الحياة ملزمة . أما المرة الثالثة فقد اختلفت عن سابقاتها، ووقعت منذ أسبوع، إن تذكرها يفعمني بالندم الساخن ، كنت مع" مصطفى" و" احمد" أنت تعلم حديثي مع "مصطفى" قد انكشف الآن وكنا نسهر عند "جبار" وندير أحاديث حميمة بيننا . وأثناء النقاش، كانت مسألة مكانتي في الحزب ، الذي سيعاد تشكيل بعض لجانه وهيئاته المؤجلة دوما، اجل.. اجل لقد تمت تسوية كل شيء ولا ينبغي أن نتطرق إلى ذلك بعد الآن، ولكن لا داعي لإخفاء سر من الأسرار عنك.. اجل ..
والتبست الأشياء التباسا شديدا في تلك الليلة ، وكان وضعي دقيقا جدا، كنت شديد التوق إلى سماع كلمة محددة من " مصطفى" ولكن وجود" احمد" حال دون ذلك وكنت استخدم قوة عقلي على أفضل وجه لأبقي تلك الأحاديث التافهة الخفيفة، غير واضحة التوجه إلى النقطة التي تخصني. كان لابد من ذلك، إذ أن تصرف " احمد" القديم يسوغ لي الحيطة ... علمت أن " احمد" سيتركنا وراء شارع" العابد" ، وسأستطيع عندئذ أن أباغت " مصطفى" بحديث صريح غير متوقع. إن المرء مضطرا أحيانا إلى اللجوء إلى مثل هذه الخطط الصغيرة... وهناك أسفل الطريق ، وفي أخر مجال الرؤية ، رأيت مرة أخرى الباب الأخضر والجدار الأبيض.
اجتزناهما ونحن نتحدث، اجتزتهما أنا، ما أزال أرى ظل" مصطفى" الجانبي الواضح، بالبقعة العالية المنكسة فوق انفه البارز، ودثار الرقبة الكثير الثنيات، وهو يتقدم ظلي وظل " احمد" ونحن نمشي الهوينى.
مررت بالباب على بعد عشرين سنتمتر. سألت نفسي: إذا ألقيت عليهم تحية المساء ودخلت ماذا سيحدث؟ كنت على أحر من الجمر لأحكي كلمة مع " مصطفى". لم استطع أن أجيب عن السؤال وأنا من مشاكلي الأخرى في ورطة. فكرت:" سيظنونني مجنونا إذا اختفيت الآن- اختفاء حزبي بارز على نحو مذهل"، اثر ذلك في، مئات الشؤون اليومية التافهة على نحو لا يمكن تصوره ، كانت تؤثر في أثناء تلك الأزمة.
عندئذ التفت " سنبل" نحوي بابتسامة حزينة، وقال ببطء : " هذا أنا" ثم كرر قوله:" هذا أنا" لقد ضاعت مني الفرصة. ثلاث مرات في السنة الواحدة عرض علي الباب، الباب الذي يؤدي إلى سلام، والى البهجة، إلى جمال يفوق الأحلام، و إلى حنان لا يمكن أن يعرفه إنسان على الأرض. رفضت أن ادخل، فضاعت تلك الحديقة مني.
- ومم عرفت ذلك؟
أنا اعرف.. اعرف. لقد تركت الآن لأحل تلك المسألة، ولأوفر علي المهام التي تقيدني عندما تأتيني لحظات الامتياز. أنت تقول : " أني حققت نجاحا". ولكنه نجاح سوقي مبهرج ومضجر هذا المحسود عليه. اجل حققت نجاحا.
كان في يد " سنبل" الكبيرة جوزة. قال:" إذا كان نجاحي مثل هذه الجوزة" .. ثم كسرها وقدما لي لكي أراها..
دعني أقول لك شيئا، إن هذه الخسارة تدمرني . لم أقم ، بأي عمل منذ شهرين ، أو عشرة أسابيع تقريبا، ما عدا الواجبات الملحة والضرورية. إذ يكون احتمال تعرفي قليلا وأتجول.. اجل .. واني أتساءل فيما سيفكر الناس لو عرفوا ، أني القيادي ، أتجول وحيدا وحزينا، وأحيانا ينوح نواحا مسموعا ، وهو يبحث عن باب وعن حديقة.
استطيع الآن رؤية وجهه الممتقع، ورؤية النار الغريبة التي نفذت من عينيه. أراه في وضوح هذه الليلة، جلست استعيد كلماته، ونبرات حديثه بينما هاتف صديقي نقل لي خبر جنونه،شغل حادث جنونه الحزب بأكمله، لم نتحدث إلا عنه.
لقد وجد صباح البارحة في حفرة عميقة قرب" سوق مدحت باشا" كان هناك مدخلان إلى داخل الحفرة حيث تتم أعمال الترميم من الناحية الشمالية، وقد أقيم حولها سياج في أعلى الطريق صونا للمارة من الوقوع، وليس ذلك السياج إلا ممرا صغير فتح من اجل العمال العاملين في الأسفل، لقد نزل إلى الحفرة أمام العمال واخذ يعفر التراب على رأسه و ينادي على نمرين، وعلى سيدة في ثياب خضراء، هذا ما رواه العمال للشرطة حين ذلك .
ألقيت الهاتف جانبا.
لقد أعمت عقلي الأسئلة والألغاز.
يبدو انه قطع الطريق من المنزل إلى ذلك المكان مشيا على الأقدام بحثا عن الحديقة، تكرر خروجه في الليل في البحث عنها خلال الشهرين قبل جنونه.
كنت اصف قامته الداكنة وهو ماض عبر الشوارع الخالية ملتفا في ثيابه، عازما أمره .
هل خدعه المظهر الأبيض للألواح الخشبية الخشنة وقد أضاءتها مصابيح الكهرباء الشاحبة؟
هل أيقظ ذلك الباب المميت غير المقفل ذكرى ما؟
أكان هناك في أخر الأمر، أي باب اخضر في الجدار؟
لا ادري لقد رويت القصة كما رواها لي ، واني اعتقد أن " سنبل " كان ضحية توافق بين نوع نادر لا سابق له من الهلوسة وبين فخ نصب له دون قصد، ولكن ذلك ليس اعتقادي العميق في الواقع ، قد تظنني مؤمنا بالخرافات ، إذا أردت، تظنني مجنونا ، إلا أني في الغالب، مقتنع حقا بأن " سنبل" قد وهب، في الحقيقة، موهبة غير عادية وإحساسا ما، لا اعرف كنهه بأن شيئا ما قد عرض عليه، في صورة باب وجدار، مخرجا، ممرا خاصا وسريا للهرب إلى عالم أجمل بكل معنى الكلمة.
على أية حال ستقول: أن ذلك العالم قد خدعه وخانه .
هل خدعه وخانه حقا؟
هنا تلمس أعمق أسرار الحالمين، وأصحاب الرؤى والخيال.
إننا نرى عالمنا جميلا رغم ما فيه من حفر وأسيجة.
لقد خرج " سنبل" في وضح النهار من الأمن إلى الظلمة فالخطر فالجنون فالموت، ولكن هل رأى هو ذلك؟.