كانت تسافر من مشكلة إلى أخرى ، وفي قطار المشكلات التقت به ، جلس أمامها في المقعد ، كان يسترق النظرات إلى وجهها الجميل في حياء لنصف ساعة تقريبا ، وكانت تسرق من وجهه الأسمر بعض التحليلات كلما سنحت لها الفرصة للنظر إليه . بعد مضي الوقت اللازم لذهابِ توجسِ كل منهما من الآخر تشجع ليقول صباح الخير ،ثم أردف قائلا : خصلات شعرك تظهر خارج الحجاب وهو يحرك يده كامرأة تزيح خصلة شعرها ! قالت: شكرا وهي تزيحها بالفعل ! إلى أين تذهبين ؟ .. إلى مشكلة جديدة ! وأنت ؟ إلى مشكلة قديمة ! تبسم وهو يقول ذلك لتظهر أقاح ثغرها عن ابتسامة ساحرة ! بدا الحوار معه شيقا ولطيفا فهو بارع في التسلل إلى أعماقها دون ضجيج . وجدت نفسها بعد ساعة من الطريق تحدثه عن محطتها الأخيرة ...مشكلتها .و تبوح ببعض التفاصيل وهي لا تشعر بالحرج . أدهشها حتى الشك تفاعله معها فقد اغرورقت عيناه بالدموع وهو يستمع لمأساتها الأليمة . رأت في دموعه إنسانية عميقة وسألها الشك : كيف يبكي متأثرا بقصتها وهو لم يعرفها إلا منذ نحو الساعة ؟ ! ولكنها في المقابل لم تلحظ منه تصرفا مشينا فقد كان رغم انفرادهما في غرفة القطار حييّا جدا ومؤدبا إلى أبعد الحدود ! من باب التبادل حكى لها قصة من حياته وتأثرت أيضا هي بها وإن كانت دموعها لم تعلن عن نفسها فقصته أقل حزنا من قصتها بكثير. أخيرا توقف القطار وقبل أن تهم بالخروج سألها متى نلتقي ؟ قالت في طريق العودة . خرجت في المحطة التالية . وقضى ليلته يعالج مشكلة ما في المحطة التي تليها وفي الصباح استقل القطار وحرص على الركوب في ذات الموقع وبالفعل توقف القطار وركبت ليدور حوار ساخن جديد . كانت تنتقل بين محطتين عفوا مشكلتين وعندما وصل القطار قال لها متى نلتقي؟ قالت في طريق الذهاب .
ظل يركب القطار أسابيع طويلة ذهابا وجيئة فقط ليسعد بالحوار معها. كانت مسافة الطريق بين المحطتين من ركوبها في القطار إلى خروجها منه أربع ساعات متواصلة لا يقطعها إلا توقف القطار قليلا في محطة على الطريق! وهناك توقف القطار ليخرج بعض الراكبين ونظرا معا إلى شيطان في المحطة يحاول إغواء فتاة لتستسلم لشاب كان يتكهرب جسمه من الرغبة ! أصابها الخوف وانتابته الخشية وتحرك القطار لتضع عينها على الأرض خجلا ويزيح عينه عنها حبا وحياءً.
في بعض الأحيان كانت لا تستطيع العودة أو لا تأتي للذهاب فكان يشغل عقله المتعلق بها وقلبه المفتون بشخصيتها بالنظر من نافذة القطار ، ينظر إلى أشجار التفاؤل التي نبتت على جانبي الطريق . كانت بعض تلك الأشجار تمد أغصانها لتلامس ممازحة القطار وراكبيه .كما يستمتع بالنظر إلى سحب الأمل التي تتراكض خلف القطار محاولة اللحاق به وتلقي بعض زخاتها أحيانا ، كانت هي تحب تلك الزخات كثيرا وتمد يدها الناعمة البيضاء لتلامس قطراتها الباردة ! وهو يحب النظر إلى تلك اليد!
وفجأة انقطع سفرها كثيرا حتى لبس - هو- الحزن ثيابا يسير فيها وشرب قلبه اليأس من عودة لقائهما ولكنه أبدا لم يقطع عادته في السفر بالقطار وانتظار ظهورها حتى عادت ليلبس ثياب الفرح من جديد ، أصبح حبه لها وشغفه بالجلوس معها حقيقة ظاهرة يدرك ركاب القطار الذين يسافرون عادة بذات الخط معرفتها ، ولكن اقترانه بها مستحيل جدا بل جدا جدا ،ولذلك عرض مشكلته على مستشار ، أطلق ذلك الصديق على علاقتهما كل أنواع الرصاص الحي والمطاطي واستخدم لنسف تلك العلاقة كل أنواع المتفجرات ونعته بأبشع النعوت بل ووصفه بالأناني ، وسأله سؤالا محيرا وحقيقيا ، هل هي متزوجة ؟ قال له نعم فقال له أترضى أن تكون زوجتك على علاقة برجل آخر حتى لو كانت.. وكان عفيفا معها يتحدثان فقط . ثم قال : فقط يتحدثان ؟ ترك ركوب القطار عدة أسابيع كانت هي تنتظره بكل صبر وشوق ولهفة وخوف وحزن وترقب وفي جحيم انتظارها تصلها منه رسالة قصيرة جدا . (انسي لقاءنا إلى الأبد !) هربت كل غيوم الأمل وسقطت أشجار التفاؤل ميتة على الطريق وخرجت هي لشدة ارتباكها في محطة جديدة لم تكن تلك وجهتها في الأصل .