العودة إلى الله (للشاعر جمال مرسي )
دراسة تحليلية
النص
1- يا نفسُ هل مِـنْ عـودةٍ ومـآبِ من قبل طيِّ صحيفتـي و كتابـي
2- مالـي أراكِ بظلمـةٍ ومتـاهـةٍ تستعذبيـنَ مَشَقَّـتِـي وعـذابـي
3- زَحَفَتْ جيوشُ الشَّيْبِ زَحْفاً فَاْعتَلَتْ عَرْشَ الفؤادِ تَدُكُّ صَرْحَ شبابـي
4- و الأربعونَ تُذيعُ سِرّاً ، لمْ أَكُـنْ مِـنْ قَبْلِهـا أدخلتـه بحسـابـي
5- هذا الشبابُ الغـضُّ راحَ زَمَانُـهُ وَ الدَّهْرُ كشَّر غاضباً عـن نـابِ
6- واْنقَضَّتْ الدُّنيـا علـى طُلاّبِهـا بزخـارفٍ بـراقـةٍ و ثـيـابِ
7- فسقتهمـو لمـا تَنَاسَـوْا غَدرَهـا كأسـاً مـن الآلامِ و الأوصـابِ
8- كم أنْشَبَـتْ أظفارَهـا بِلحومِهِـمْ فاستسلمـوا كفريسـةٍ لعُـقـابِ
9- وَلَكم هَوَتْ بالمُولَعيـنَ بسحرهـا من سامقاتٍ فـي السمـا لتـرابِ
10- ولكم تمنَّاهَا أخـو الدنيـا ، فَلَـمْ يظفـرْ طـوالَ حياتِـهِ بِطِـلابِ
11- أعيتهُ ركضاً خلفها ورَمَـت بِـهِ ظَمِئاً ، كمن أعيتهُ خلف سـرابِ
12- لا تدهشي يـا نفـسُ لا تتعجبـي لا تنظري ليْ نظـرةَ اْستغـرابِ
13- هذي هي الدنيا ، ألـم تتعلمـي ؟ أم أنتِ ممـنْ سفَّهـوا أسبابـي ؟
14- فتشدَّقـوا بالقـولِ أنِّـي يائـسٌ أبصرتُها مـن أضيـقِ الأثقـابِ
15- وبأننـي لمـا زهـدتُ أطايبـي أوصدتُ في وجه الدُّنـا أبوابـي
16- وحبستُ نفسي في قيـودِ تَغَرُّبـي و زجرتُهـا أن بَـادَرَتْ بعتابـي
17- كَلا َّ، فلستُ من الذيـن توهمـوا زوراً ، و لكن من أولي الألبـابِ
18- والمرءُ إنْ أعطاهُ ربـي حكمـةً كانـت كبـدرٍ ساطـعٍ خــلاّبِ
19- يسبي العقولَ بهـاؤهُ ، فيزينُهـا كالوشيِ يُبـدي زينـةَ الأثـوابِ
20- هذي هيَ الدنيـا كمـا أبصرتُهـا مرَّت أمام العيـن مـرَّ سحـابِ
21- حدَّقْتُ فيها ناظـريَّ ، فلـم أجـد إلا ذئـابـاً أَوْقَـعَـتْ بـذئـابِ
22- و الكلُّ فيها شاخِـصٌ مُتَرَبِـصٌ بقواطـعٍ مسلـولـةٍ و حِــرابِ
23- و رأيتُ خلقـاً يلهثـون وراءهـا فأنَخْتُ في وسَطِ الطريقِ رِكابـي
24- وعلمتُ أنَّ العمـرَ فيهـا لحظـةٌ قد تنقضي فـي جيْئَـةٍ و ذَهـابِ
25- و المـوتُ آتٍ لا يُفَـرِّقُ سيفُـهُ بين الصبيِّ و ذلـك المُتَصابـي
26- فأخذتُ حِذري بالرجوع إلى الذي خَلَقَ الدُّنا، أرجـو قبـولَ متابـي
27- فَوَجَدْتُـهُ ربّـاً غفـوراً راحِمـاً أنعـم بِـهِ مـن غافِـرٍ تـوّابِ
28- أنَّبتُ نفسـي ، لُمتُهـا ، وبَّختُهـا أن لم يكن مـن قبـل ذاكَ إيابـي
بين يدي النص :
يعالج الشاعر جمال مرسي في قصيدته قضية تهم كل مسلم ومؤمن موحد بالله ، وهي قضية التوبة إلى الله والرجوع إليه ، والندم على ما فرَّط في جنب الله ، كيف لا وكل ابن آدم خطّاء وخير الخطّائين التوابون . ويكون الأمر ملحّاً أكثر إذا تقدم الإنسان في العمر وجاوز الأربعين سنة ( أو الرابعة والخمسين مثلي ) ، وخَبِرَ الدنيا جيداً فوجد أنها لا تساوي شيئاً ، وأن التشبث بها هو من قبيل الجري وراء السراب والأوهام .
معاني المفردات :
الغض : الناضر الطري
انقضَّت : هوت ، أسرعت في طيرانها نحو صيدها
الأوصاب: جمع وَصَب ، وهو المرض والوجع الدائم ونحول الجسم ، وقد يطلق على التعب والفتور في البدن
سامقات : عاليات طويلات
بطِلاب : بما يطلبه ويتمناه
أعيته : أتعبته
ظمِئاً : عطشاناً
سفَّهوا : اتهموا بالجهل والطيش وعدم الحِلم
أسبابي : ذرائعي وحججي
تشدقوا : لووا أشداقهم للتفصُّح / توسعوا في الكلام من غير احتياط وتحرُّز
أطايبي : الأشياء الطيبة في حياتي
أوصدتُ : أغلقتُ
ساطع : مرتفع ومنتشر الضوء
خلاّب : يسلب العقل ويفتن القلب
بهاؤه : حُسنه وظُرفه
الوشي : نقْشُ الثوب
حدَّقتُ : نظرتُ وحددتُ النظر
مسلولة : منزوعة من غمدها
أنَخْتُ : جعلتُه يبرك على الأرض
رِكابي : إبلي
المتصابي : المائل إلى اللهو واللعب
أنعِم به : تعجُّب من كثرة نعمه
أنَّبْتُ : عنَّفتُ ولُمتُ
الفكرة العامة للنص :
دعوة للتوبة إلى الله واجتناب المعاصي والموبقات والزهد في الدنيا والرغبة فيما عند الله تعالى .
الفِكَر الجزئية :
1- دعوة للنفس بالتوبة وزجرٌ لها بسبب ما اقترفت من معاصٍ . ( البيتان 1 ، 2 )
2- انقضاء الشباب وحلول المشيب . ( الأبيات 3 ، 4 ، 5 )
3- بطش الدنيا بطلابها والمتشبثين بها . ( الأبيات 6 ، 7 ، 8 ، 9 )
4- عدم حصول طالب الدنيا على ما يريد . ( البيتان 10 ، 11 )
5- نهي النفس عن التعجب من هذه الدنيا . ( البيتان 12 ، 13 )
6- استنكار الناس على الشاعر زهده في هذه الدنيا . ( الأبيات 14 ، 15 ، 16 )
7- رد الشاعر عليهم . ( البيت 17 )
8- فضل الحكمة الإلهية . ( البيتان 18 ، 19 )
9- حال أغلب الناس في هذه الدنيا . ( الأبيات 20 ، 21 ، 22 ، 23 )
10- زهد الشاعر في الدنيا . ( البيتان 24 ، 25 )
11- توبة الشاعر ورجوعه إلى الله وتأنيبه لنفسه . ( الأبيات 26 ، 27 ، 28 )
الأساليب اللغوية والغرض منها :
1- النداء في قوله : " يا نفسُ " ، الغرض منه لفت الانتباه إلى ما سيطلبه من هذه النفس .
2- الاستفهام في قوله : " هل من توبةٍ ومآبِ ؟ " ، الغرض منه حث النفس على العودة إلى الله .
3- الاستفهام في قوله : " ما لي أراكِ بظلمةٍ ومتاهةٍ تستعذبين مشقتي وعذابي ؟ " ، الغرض منه توبيخ نفسه على ما فعلت .
4- النهي في قوله : " لا تدهشي يا نفسُ لا تتعجبي لا تنظري لي نظرةَ استغرابِ " ، الغرض منه إرشاد النفس وبيان أن ما قاله آنفاً ليس بالأمر الغريب العجيب .
5- الاستفهام الاستنكاري في قوله : ألم تتعلمي؟ أم أنتِ ممن سفَّهوا أسبابي ؟ " ، الغرض منه الإنكار على نفسه أنها لم تتعلم ، أو على تسفيهها لأحلامه .
المحسنات البديعية :
1- الترادف في قوله : " عودة ومآب " .
2- الترادف في قوله : " صحيفتي وكتابي " .
3- الترادف في قوله : " الآلام والأوصاب " .
4- الترادف في قوله : " لا تدهشي " ، " لا تتعجبي " .
5- التضاد في قوله : " جيئة وذهاب " .
6- الجناس الناقص ( غير التام ) في قوله : " الصبيّ " و " المتصابي " .
7- تكرار الترادف في قوله : " أنَّبتُ نفسي " ، " لُمتُها " ، " وبَّختُها " .
الصور البيانية :
1- الاستعارة المكنية في قوله : " تستعذبين مشقتي وعذابي " ، حيث شبَّه المشقة والعذاب بالماء العذب بالنسبة للنفس ، فحذف المشبه به وأبقى لازماً من لوازمه وهو الفعل " تستعذب " .
2- التشبيه في قوله : " زحفت جيوش الشيب " ، حيث شبَّه الشيب بالجيوش الزاحفة ، أو شبَّه انتشار الشيب في رأسه بزحف الجيوش الجرارة ، كناية عن كثرة هذا الشيب وسرعة انتشاره في رأسه ( هنا أضيف المشبه به للمشبه ) .
3- الاستعارة المكنية في قوله : " فاعتلت عرش الفؤاد " ، حيث شبَّه فؤاده بمملكة لها عرش ، فحذف المشبه به وأبقى لازماً من لوازمه وهو العرش ، وهذه الاستعارة الغرض منها بيان شدة تمكُّن هذا الشيب وتأثيره على قلبه وفؤاده .
4- التشبيه في قوله : " تدكُّ صرحَ شبابي " ، حيث شبَّه الشباب بالصرح الذي تقوم جيوش الشيب بدكِّه ، والغرض من هذا التشبيه بيان أن الشباب مهما بلغ من قوة وجبروت فإن الشيب أقوى منه وسيتغلب عليه (هنا أضيف المشبه به للمشبه ) .
5-
يتبع بإذن الله