الموظَّفُ المتأخرُ!
كانَ بكاملِ أناقتهِ عندما دخلَ قاعةَ الاجتماعِ التي غُصّتْ عن آخرِها...وقد كانَ يشفعُ له أن يتأخَّرَ، أنَّهُ كان الأوَّلَ على أَقرانِه ممنْ يستقطبونَ زبائنَ جُدَداً للشَّركةِ..فلم يكنْ يهمُّهُ في نجاحِهِ المديرُ ولا حتّى أصحابُ الشّركةِ..
جلسَ في موقعٍ آخرَ الطاولةِ البيضاويةِ السوداءَ المفرغةِ من وسطِها...أحسَّ المللَ والفراغَ إذ استطالَ كلمةَ المديرِ..فكانَ كمنْ يجلسُ على جمرٍ...أو على لغمٍ شديدِ الانفجارِ..فتأفَّفَ ثمَّ هم َّ أن يغادرَ ..إلا إنَّهُ سمعَ المديرَ يقولُ:
إنَّ على الموظَّفِ أنْ يحافظَ على هندامِهِ وسمْتهِ وهيئتِه..فإنَّ منْ دواعيَ ذلكَ السلوكِ البقاءُ في الشَّركةِ...نحنُ كما تعلمونَ شركةٌ ربحيةٌ وليستْ هيئةٌ خيريةٌ توزِّعُ الهباتِ على الفقراءِ والمساكينَ._إذ كلّما حققتِ الولاياتُ المتحدةُ مصالِحَها في التريليوناتِ من دماءِ الفقراءِ في العالمِ، كلّما ظهرتْ أكثرَ قُبْحا_ هكذا فسَّرَ الموظَّفُ كلامَ المديرِ.
قالَ المديرُ: انظروا إلى الموظفةِ لن أسميَها- ولكنَّهُ أشارَ بعينِه إلى الموظفةِ فداءَ-رُغمَ تفانِيها وإخلاصِها في العملِ...فإنَّها بالكادِ تستبدلُ ملابِسَها كلَّ أُسبوعٍ!..فاتَّجهتْ أنظارُ الموظَّفينَ إليها..
واستطرد: حتّى بتُّ مقتنعاً أنّها لا تغيرُ ملابِسَها مُطلقاً...فنفرتْ من عيني فداءَ دمعتانِ فغالبتْ إلى الصّمتِ، إذ تذكّرتْ أخاها الذي اقتضاهُ المرضُ إلى الموتِ فغابَ عن الدُّنيا، إلا منْ ولدينِ في السّابعةِ والتّاسعةِ, وبنتٍ في الثّالثةِ، ليس لهم في الدُّنيا إلاّ عمّتَهُم..وأهلَ الخيرِ الذينَ ينفذونَ إلى يدِها ممنْ يعلمُ الحالَ شيئاً من مالٍ..
واستطردَ المديرُ: تعلمونَ نحنُ شركةٌ في هذا البلدِ لها قامتُها وقيمتُها...كلُّ موظَّفٍ وموظَّفةٍ منكم عليهِ أن يرفعَ من شأنِ هذهِ الشّركةِ..ثم تقعّرَ في الكلامِ في زهو الطاووسِ : هذه الشركةُ التي لحمُ أكتافِكُم من خيرِها..
فقاطعهُ الموظفُ الجالسُ في الأخيرِ قائلاً بسخريةٍ:
باللهِ عليك أبا أحمدَ-مخاطباً الجالسَ بجوارِ المديرِ-: قسْ لنا عرضَ أكتافِ المديرِ...حتى نحسبَ كمْ كيلو مترٍ أصبحَ منْ فضلِ الشركةِ عليهِ..؟!..ذُهلَ الجميعُ وفغرَ البعضُ أفواهَهُمْ-هَرَجٌ ومَرَجٌ ثمَّ سكوتٌ- فهالَ المديرُ ما سمعَ وقالَ:
ماذا تقولُ أيُّها المجنونْ!..ألا يكفي من تقصيرِكَ وإهمالِك أنّكَ جئتَ الاجتماعَ متاخراً..؟!
قال الموظَّفُ في المقعدِ الأخيرِ:
أنْ تصلَ متأخراً..خيرٌ منْ أن تستمعَ إلى هذا القولِ المأفونِ..فيقولُ لكَ المجنونُ:
"إنتَ مديرْ مشْ محترم!!"
المديرُ: اخرسْ يا فاشلُ!
واستأذنَ أحدُ الموظفينَ الجالسينَ إلى خارجِ القاعةِ..وقدْ شوهدَ عبرَ الجدارِ الزجاجيِّ وهو يتحدَّثُ بالخُليويِّ..
فصرخَ المديرُ الذي خانهُ صوتُهُ: ماذا تقولُ أيُّها السَّكِّيرُ العِربيدُ..؟!
قالَ الموظَّفُ- وقدْ رأى الضوءَ الساقطَ من مصباحِ النيونِ فوقَهُ ينعكسُ بشدةٍ عن رأسِ المديرِ الأصلعِ-: الأوْلى لكَ أن تُركِّبَ باروكةَ شعرٍ اصطناعيٍّ لتُخفيَ صلعَتَكَ..يا أيها الأقرعُ البائسُ..هذا الضّوءُ المنعكسُ إلينا ..ليسَ إلا ليكشفَ فسادَك وفضائِحَكَ..
قلْ لنا: كيفَ تَعيِّنَ ابنُكَ الذي تخرَّجَ منَ الجامعةِ بتقديرٍ مقبولٍ، عندنا براتبٍ خياليٍّ؟!...كيفَ توظِّفَ عندَنا صهرُكَ مُشرفاً عاماُ وهو لا يحملُ الإعداديةَ؟!...وكذا الأموالُ التي تتقاضاها من الشَّركةِ تحتَ بنودِ الضِّيافةِ والإعلانِ..وبنودِ السفر وبدلاتِ النَّقلِ...ووجباتِ الطَّعامِ للعاملينَ في المساءِ في العملِ الإضافيِّ الوهميِّ لتحتسبها لكَ...وبنودٌ شتىّ ما أنزلَ اللهُ بها من سلطانٍ!...ألم ترفعَ مكافأتكَ آخرَ كلِّ سنةٍ لتتجاوزَ الملاييَنَ... وهل يُحصِّلُ المساهمونَ في الشَّركةِ منْ حصيلةِ الأرباحِ إلاّ على الُفتاتِ!...طبعاً مساهمو الشَّركةِ الكبارِ يسكتونَ عليكَ لأنَّك تُعينُهم على فسادِهم!
بل إنني أقولُ لكَ وأُأكدُ: أنتَ لستَ محترماُ... أنتَ لصٌ كبيرٌ..يمكنك الآنَ أبا أحمدَ أن تقيسَ لنا المسافةَ ما بين الكتفين!
صرخَ المديرُ بملءِ فيهِ: اخرجْ أيُّها اللَّعينُ.. واللهِ لن تبقى هنا دقيقةً واحدةً..ولأعلِّمنَّكَ كيف يكونُ الحديثُ مع المديرِ!
واستطردَ الموظفُ:
بلْ لم ينتهِ حديثي بعدُ معكَ..وإذ تناولتَ الموظفةَ القديسةَ بالكلامَ، تلك الموظفةُ التي رفضت الزواجَ رُغم كثرةِ الخاطبينَ، ولو علمَ السرطانُ الذي ذهبَ بأخيها لكان أرحمَ منكَ، ولتركهُ وتشبّثَ بك!
رنَّ هاتفُ الموظَّفِ الخُليويِّ..رفعهُ إلى أذنهِِ- بينا المديرُ يغلي في موقفهِ- قالَ الهاتفُ من بعيدٍ:
أنا مديرُ الشَّركةِ(....): إنَّ لكَ مكاناً محترماً في شركتِنا، فتعالَ فَوَقِّعِ العقدَ...واكتبِ الراتبَ الذي تريدُ!!
بينا توجّهَ المديرُ أثناءَ ذلكَ إلى الموظفينَ قائلاً:...أنتمْ جميعا ..أيٌّ منكُمْ من رأيهِ فليخرُجْ الآنَ حالاً..ووقعتْ عينهُ على فداءَ!
قال الموظَّفُ المتأخرُ ضاحكاً: ها ها ها..! لكانَ رزقُنا عليكَ!!..وكلٌّ ذُهلَ مما رأى وسمعَ، وأخذَ كلُّ موظفٍ ينظرُ في وجهِ االآخرَ!
ثمَّ حملَ الموظفُ المتأخرُ حقيبتَهُ وغادرَ قبلَ الجميعِ-وتبعتهُ نظراتُ فداءُ بابتسامةٍ-
...شعورٌ بالكرامةِ...وزهوٌ بانتصارٍ غريبٍ!