غـريبقصة بقلم : فرج مجاهد عبد الوهاب
مثل كل مرة، وجدت المكان مغلقا.. التراب يكسو كل شيء.. زجاج " الفتارين " تغبر وجهه.. كل الدلائل تشير إلى أنه لم يحضر منذ فترة طويلة.. هل ترك المهنة إلى غير رجعة.. استبعدت ذلك, فقد توارثها أبا عن جد.. لم نعد نراه في القرية مثل زمان . كان حريصا على المجاملات الاجتماعية.. سَبَّاق في حضور المآتم .. يرسل باقة ورد في المناسبات السارة إذا تعذر الحضور لسبب ما.. يحضر مساء الخميس يقضى يوم الجمعة بطوله بيننا ثم يعود صباح السبت إلى عمله بالمدينة الكبيرة . الآن انقطع كل شيء.. حتى جلستنا على حافة الترعة شرق القرية تحت شجرة التوت بعد صلاة الجمعة لمناقشة قضايا العالم نسيها.. يبدو أنه نسى كل شىء منذ أن اتصل ذكره في الصحف .. كان هذا يسعدنا في القرية.. طبعا أليس ابن بلدنا ؟ كان اسمه يضىء الصفحات الثقافية في أكبر صحف مصر بين الحين والآخر.. الأسبوع الماضي أخبرنا جابر أبو المعاطى أنه شاهد صورة الأستاذ – نطلق عليه اسم الأستاذ – في جريدة الأهرام بمناسبة صدور كتاب جديد له وأن قصته " السيد الديك " سوف تمثل في إحدى القنوات الفضائية وتذاع بعد لقاء مع المؤلف/ الأستاذ .
في الماضي كان يقول لى عندما أزوره في عمله في المدينة: يلازمني إحساس دائم أنني غريب في هذه المدينة المتنافرة .. الكل في صراع .. لا أحد يحس بالآخر .. لكى تعيش هنا يجب أن تزرع لك أنيابا وأظافر لكى لا تؤكل مثل السمك الصغير في البحر أوفى المحيط ..
قررت أن أسأل صاحب المكتبة المجاور عنه .. أجابنى إجابات غامضة مبهمة .. صاح ابنه الذى استمع لحوارنا : يمكنك أن تقابله بمقر صحيفة " العاصمة " بعد الثانية ظهرا .. أضاف البائع : يقيم ندوته يوم الأربعاء في النقابة تستطيع مقابلته فيها بعد السابعة مساء .
قال الرجل الكبير :
- إذا كان الأمر ضروريا يمكنك محادثته تليفونيا، فقد أدخل التليفون مؤخرا .. أخرج بعض الأوراق من جيبه.. أملاني الرقم . تغيرت كثيرا يا صديقي.. حتى البرنامج اليومى الذى كنت أحفظه تغير .
عند أقرب تليفون عمومى أدرت الرقم وانتظرت سماع صوته .. صدم أذنى صوت أنثوي ناعم يتحدث برقة ... أخبرتها عن نفسى .. قالت بصوت ثلجي:
- هو غير موجود . عنده تسجيل في القنوات الفضائية ... ثم أضافت مستدركة :
- أنا المدام ، تحب نبلغه بشىء ما ؟
شكرتها ثم وضعت السماعة..ألقيت الورقة المدون بها رقم التليفون على الأرض، ثم حملت حقيبتى واتجهت إلى محطة القطار .