الرأس الأخضر
مثلما الأشياء العادية تحدث آلاف المرات يومياً دون أن تحتاج لأية تفكير أوحتي يسال الإنسان نفسه كيف حدثت ، مجرد سعال عادي ، آلاف بل ملايين الناس يسعلون دون أن يفكر أحدهم.. كيف ؟!
مجرد سعال والسلام . ثم بعد أسبوع أو يزيد حدث كما في المرة السابقة دون زيادة أو نقصان .وفي المرة الثالثة نصحه أحد الإخوة بشرب سبعة جرعات ماء وانتهي الأمر. لكن الأمر أصبح يتكرر كل أسبوع فنصحوه بشرب جرعة كبيرة من زيت السمسم الأصلي فاختفت الكحة لمدة شهر تقريباً . لكنها عادت واستمرت لبضع ثوان مع (عشراقة) وبعض العطس فذهب لصيدلية وأعطوه مضاداً حيوياً وغرغرة للحلق لتختفي الكحة نهائياً ولمدة طويلة فحمد الله واستراح.
ولكن فجأة وبعد عدة أشهر عادت الكحة وبشكل مزعج فوصفوا له هذه المرة عسل النحل الأصلي ... مع الحبة السوداء ففيهما العلاج الشافي والنهائي واستمرت الحياة طبيعية مثلما كانت ذات يوم وبينما هو في عميق نومه هبّ منتصف الليل ، أيقظته نوبة سعال أستيقظ علي إثرها أبوه المعروف بخفة نومه وكذلك استيقظت أمه وبقية إخوته ونصحوه بمقابلة الطبيب ففعل ... وبعد الكشف وتحليل البصاق قال الطبيب ربما يكون عيب خلقي في الحلق يحدث عند بعض الناس أن يدخل اللعاب في القصبة الهوائية أثناء النوم مما يسبب السعال فجأة أثناء النوم فعادت إليه ابتسامته وضحكته الرنانة كصخب أمواج الشاطئ .ولكن في احدي المرات وأثناء الليل أيقظته الكحة من النوم وسدت عليه حلقه واستمرت مدة اطول مما كانت عليه في العادة فشرب جرعات الماء السبعة المعهودة وغير اتجاه رأسه على الوسادة وتعوذّ بالله من الشيطان الرجيم.
حكي كل ما حدث لبعض الإخوان فوصفوا له شيخاً يعالج بالأعشاب وان دواؤه مجربّ ومضمون فذهب إليه من باب تمسك الغريق بالقشة فأعطاه ورقة وطلب منه أن يمسح بها الحلق من الخارج ثم يحرقها ويستنشق دخانها ..تماماً كما وصف الشيخ المعالج لكن الأمر لم يتوقف إلا لبضعة أيام فقط . وعادت الكحة بعدها بصورة متكررة وعلي فترات أقرب من سابقاتها !!
حين ساء الأمر أخذوه لأخصائي الأنف والأذن والحنجرة وبعد فتح الحلق وتسليط ضوء المصباح عليه ثم إ دخال كاشفه طبية من الإستيل
:- افتح فمك عن آخره .
ثم شرح له الطبيب أن لسان المزمار المتدلي بسقف الحلق أطول مما يجب ، مما يدخل في مجري التنفس وعليه سنقوم بعمليه جراحيه بسيطة لتقصيره ولن تستمر العملية أكثر من خمس إلي عشر دقائق .وفي الزمن المحدد لإجراء العملية تمت بنجاح وأعطي مضادات حيوية لسرعة التئام الجرح وخلال يومين شفي تماماً فذبحوا له كرامه ،كان خلالها الأكثر مرحاً وسعادة وانتهي كل شيء وقبر في الماضي السحيق إلا انه وبعد أكثر من بضعة شهور عادت الكحة فجأة ذات يوم !!
عندما عاد الطبيب قرر له صورة أشعة . نظر إليها الطبيب مليّاً باتجاه الضوء قال:لا يوجد شئ بالحلق ثم طلب صوراً أخري للرئتين وايضاً قال الطبيب :- لاشئ ،رئتاك مثل بالونين منفوخين لكن الكحة لم تنتهي وبدأ يصاب بالقلق والتوتر !
وفي مرة أخري غيّر الطبيب وحكي له كل شئ مع صور الأشعة فطلب هذا منه تحليل البصاق ـ لكن كل النتائج كانت سليمة ،... قاس له الضغط فوجد إرتفاعاً طفيفاً ـ ربما نتيجة للقلق الذي أصابه ـ فعزى الطبيب ذلك لإرتفاع الضغط . لكن مع الأيام زاد الأمر سوءاً ، وذات مرة صحب البصاق قطرات من الدم ، ثم زاد الأمر سوءاً ! . وفي المرة الأخيرة أجروا له أشعة بالرنين المغنطيسي ، نظر الإختصاصي إليها ولكن لم يخبره بشيء وأوصاه بمقابلة الطبيب المختص !. لكن هذا الكلام أزعجه أكثر مما طمأنه .. نظر الإختصاصي لصورة الرنين فترة ثم وضعها جانباً وبدأ بسؤاله عن أول مرة شعر بها بالسعال ؟! واستمرت الأسئلة وهو معلق بين الرجاء والإحباط .. أخيراً قال الإختصاصي :مازلنا في البداية وسنقوم بعملية استئصال الورم بعد أخذ عينة للإطمئنان ومعرفة إن كان حميد أم خبيث ؟! كما سنقوم ؟!باستئصال أقرب غدد لمفية وهما اللوزتين وبالفعل تمت العملية بنجاح كما أخبره الطبيب وأكد له أن الأمر انتهي وإلي الأبد .لكنه غير مطمئن بل وبدأ عليه الإضطراب والقلق لكنه تحامل علي نفسه وأصابه الخوف القاتل فأطلق لحيته وبدأ بقراءة القرآن وبعض الكتب الدينية وأصبح لا يتحدث إلا ويعرّج بحديثة منحاً دينياً ويسرح بمنتصف الحديث ثم يستغفر الله بعد أن يتنحنح من حلقة ويهرب دينياً ، ثم يهرب من الحديث العادي ويدخل كهفاً في غير الدين . وأخيراً أشترى مصلاة ومسبحة ومصحفاً بالخط الكوفي العريض . إلا أن أكلان الحلق ونوبات السعال لم تنقطع ، ذات مرة وصفوا له دواءاً بلدياً فاشتراه واشتري كل وصفة وصفها له شخص وبدأ بقراءة كتب الطب الشعبي وغيرها من كتب الطب والوصفات دون جدوى . ذات مرة شاهد في المرآة إخضراراً في الحلق بالداخل كما ظهرت بقعة سوداء علي سطح الرقبة جهة الحلق من الخارج .بعدها صار يكثر الغياب علي الأماكن التي ألفها وتعوّد التواجد بها وزاد اضطرابه وكثر رغاؤه حتى صار الناس يتجنبونه لكثرة حديثة فأعتزل الناس وبقي بغرفته بالمنزل كما أغلق بابها بالمفتاح ، آخر مرة جاء للصيدلية واشتري مضمضة للحلق ومسكّناً قوياً. وصارلايقرب الطعا م علي النافذة الوحيدة المفتوحة فصارت هي كل صلته بالعالم . ثم اقتني مسجلاً وبعض أشرطة التلاوة والرقية وصارت الهالة السوداء علي الرقبة تزداد ثم ظهرت معها خضرة خفيفة كبقعة طحالب على سطح مياه راكدة وصار يشعر بضيق في التنفس وتورّم في الحلق ثم زادت مساحة الإخضرار علي شكل شريط حول العنق من الأمام حتى الخلف كالذي تربط به البهم إلي أوتادها ، صار لايغادر الغرفة إلا للحمام وطغي هدوء علي المنزل فصار الحديث همساً ..! احتراماً للمريض لكي لا تقلق راحته كما فاحت في المنزل رائحة الديتول والمطهرات النفاذة وأطفئت الأنوار إلا للضرورة القصوى ، ولفترة وجيزة بعدها قرر الأطباء جرعة إشعاعية وأخرى كيميائية ، حين زارهم إختصاصي المخ والأعصاب وشاهد صورة الأشعة والرنين أسرّ لأسرته خلال أيام ستفوح في المكان رائحة عفن ، وطلب منهم أن يسألوه بطريقة ذكية إن كانت له ديون وأمانات وإن كانت عليه فليوصى بها مما زاد إحساس الموت بالمنزل ، وصارت أمه تكثر البكاء والدعوات وجهزوا له سرّاً كفناً وحنوطاً وصار لا يسمع بالمنزل سوى تلاوة القرآن من جهاز التسجيل أو قراءة والده عقب كل صلاة خصوصاً بعد صلاة الفجر ، كما نصح أخصائي المخ والأعصاب بدأت تفوح في الأرجاء رائحة عفن فأطلقوا بالبيت بخوراً من الصندل لكي يطغى عليها وبدأ المريض يدخل في غيبوبة تمتد لساعات طوال وأصبحت لحيظات الصحو ثوانٍ يشرب خلالها جرعة ماء وطلب منهم أن يستغفروا له ويقرءوا له القرآن ويعفوا عنه خصوصاً أمه التي صامت عن الطعام والشراب ، وبعدها وجدوا الرأس قد تحول بكامله للون الأخضر اللامع كسطح بحيرة تغطيها الطحالب النضرة ، إلى أن جاء يوم زادت فيه الرائحة بشكل غير محتمل ، وعندما رفعوا عنه الغطاء وجدوا الرأس وقد إنفصل عن الجسد وبدت العينان تحت الجلد كورمين صغيرين غائرين منجذبين نحو الوسط وبدا الفم كجرح قديم برئ دون أن يندمل كما برز الأنف كمنقار صقرٍ جارح، وبعض الديدان الصغيرة البيضاء تمرح فوق الخدين فقاموا بما يجب لأهل الميت أن يقوموا به . كان ذلك أثر كحة عادية تحدث لكل الناس وآلاف المرات دون أن تسلك الطريق الذي سلكته مع المرحوم .
قصة قصيرة بقلم / فائز حسن العوض