تحقيق مسألة تلبس الجن بالإنسان
بهجت الرشيد
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين..
عالم الجن من الغيب الذي لا نعلم عنه شيئاً إلا ما جاء به الشرع الحنيف في آيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم الصحيحة، ومن ثمّ فإن أيّ بحث عن هذا العالم خارج نطاق القرآن الكريم والسنة النبوية الصحيحة توقعنا في الكثير من الأخطاء والمغالطات، لأن هذا العالم لا سبيل إلى معرفته وإدراكه بالحواس، بل سبيله هو النص الصريح الصحيح.
وفي هذا البحث الصغير سنحاول الإجابة عن سؤالٍ طالما كان مثار جدلٍ ونقاشٍ وأخذٍ وردٍ، ألا وهو: هل يمكن أن يتلبس الجنّ بالإنسان ويصرعه ويتحكم في سلوكه وتصرفاته؟
وما دام الجن عالم غيبي كما قلنا، فلا بدّ من البحث عن الأدلة الشرعية للإجابة عن هذا التساؤل..
بمعنى: هل ثبتت في الأدلة الشرعية من قرآن وسنة حقيقة تلبس الجن بالإنسان أم لم تثبت؟
سوف نعرض الأدلة التي يستند إليها من يقول بالتلبس، وندرسها دراسة علميةً بعيدة عن تأثير الواقع والتصورات والأحكام المسبقة..
وأحبّ أن أنبه إلى أني والحمد لله تعالى قد اطلعت على مؤلفاتٍ حول مسألة التلبس، وحضرت جلسات إخراج الجن، وما يحدث فيها من صرعٍ وكلامٍ وما إلى ذلك من أمورٍ.. بمعنى أني أكتب هذا البحث وأنا على اطلاعٍ بالموضوع تنظيراً وواقعاً.. ثم إني كنت من المقتنعين تماماً بالتلبس.. لكن اليوم سندرس الأدلة لنخرج بنتائج لا علاقة لها بقناعاتنا السابقة، وإنما نتائج مبنيّة على الشرع الحنيف..
الدليل من القرآن الكريم:
يستدل من يقول بتلبس الجن بالإنسان بآية:
(الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَانتَهَىَ فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) سورة البقرة.
ولكن هل هذه الآية تدل دلالة قطعية على التلبس؟
ذهب جمهور المفسرين أن القيام المقصود في الآية يكون في الآخرة، أي أن آكل الربا يقوم يوم القيامة كالشخص الذي مسّه الشيطان وتخبّطه في الدنيا.. وأن الآية تدل على أن الشيطان له قدرة التلبس والصرع للإنسان..
ولكن هناك من ذهب أن المسّ ليس صرعاً أو جنوناً وإنما وسوسةٌ وتزيين للباطل، حيث جاء (مسّ الشيطان) في ثلاث مواضع في القرآن الكريم..
الأول: قال تعالى (وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ) سورة ص
وهنا يستحيل أن يتلبس الشيطان أو يدخل في أيوب عليه السلام، إذ لا يجوز أن يسيطر الشيطان على جسد نبي ويتخبطه ويصرعه، فإن هذا القول كفر..
الثاني: قال تعالى (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ) سورة الأعراف
طبعاً هنا المسّ لا يعني التلبس والصرع، وإنما هو الوسوسة، وذلك أن التذكر (تَذَكَّرُواْ) والإبصار (مُبْصِرُونَ) لا يكون فيمن حاله الصرع والتخبط وفقدان الوعي..
قال الشيخ السعدي في مفسراً هذه الآية الكريمة في تفسيره (تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان): (ولما كان العبد لا بد أن يغفل وينال منه الشيطان، الذي لا يزال مرابطاً ينتظر غرته وغفلته، ذكر تعالى علامة المتقين من الغاوين، وأن المتقي إذا أحس بذنب، ومسه طائف من الشيطان، فأذنب بفعل محرم أو ترك واجب، تذكر من أي باب أُتِيَ، ومن أي مدخل دخل الشيطان عليه، وتذكر ما أوجب الله عليه، وما عليه من لوازم الإيمان، فأبصر واستغفر الله تعالى، واستدرك ما فرط منه بالتوبة النصوح والحسنات الكثيرة، فرد شيطانه خاسئاً حسيراً، قد أفسد عليه كل ما أدركه منه).
الثالث: الآية التي نحن بصددها (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ).
أفليس المسّ هنا كالمسّ في الآيتين السابقتين؟
وفي الحديث: في صحيح البخاري: عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (ما من بني آدم مولود إلا يمسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مس الشيطان غير مريم وابنها). ثم يقول أبو هريرة {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}.
طبعاً مسّ الشيطان هنا ليس الصرع والتلبس، فالحديث له روايات أخرى تفسر المقصود من المسّ وأنه ليس بالصرع ولا التلبس، ففي صحيح البخاري أيضاً جاءت كلمة (يطعن) بدلاً من (المسّ)، فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل بني آدم يطعن الشيطان في جنبيه بإصبعه حين يولد غير عيسى ابن مريم ذهب يطعن فطعن في الحجاب).
وفي صحيح مسلم جاءت كلمة (نخس) بدلاً من (المسّ)، ومعنى النخس كما في لسان العرب: (نَخَسَ نَخْساً غَرَزَ جنبها أَو مؤخّرها بعود أَو نحوه)..
فعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من مولود يولد إلا نخسه الشيطان فيستهل صارخا من نخسة الشيطان إلا ابن مريم وأمه ثم قال أبو هريرة اقرؤا إن شئتم {وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم}).
كما أن هناك من قال بأن التخبط هو في الدنيا وليس في الآخرة.. منهم:
ابن عطية الأندلسي في تفسيره (المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز): (وأما ألفاظ الآية فكانت تحتمل تشبيه حال القائم بحرص وجشع إلى تجارة الربا بقيام المجنون، لأن الطمع والرغبة تستفزه حتى تضطرب أعضاؤه، وهذا كما تقول لمسرع في مشيه، مخلط في هيئة حركاته، إما من فزع أو غيره، قد جن هذا، وقد شبه الأعشى ناقته في نشاطها بالجنون في قوله: وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما... ألم بها من طائف الجنّ أولق)..
والرازي في تفسيره: (والقول الثالث: أنه مأخوذ من قوله تعالى: {إِنَّ الذين اتقوا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ} وذلك لأن الشيطان يدعو إلى طلب اللذات والشهوات والاشتغال بغير الله، فهذا هو المراد من مس الشيطان، ومن كان كذلك كان في أمر الدنيا متخبطاً، فتارة الشيطان يجره إلى النفس والهوى، وتارة الملك يجره إلى الدين والتقوى، فحدثت هناك حركات مضطربة، وأفعال مختلفة، فهذا هو الخبط الحاصل بفعل الشيطان وآكل الربا لا شك أنه يكون مفرطاً في حب الدنيا متهالكاً فيها، فإذا مات على ذلك الحب صار ذلك الحب حجاباً بينه وبين الله تعالى، فالخبط الذي كان حاصلاً في الدنيا بسبب حب المال أورثه الخبط في الآخرة، وأوقعه في ذل الحجاب، وهذا التأويل أقرب عندي من الوجهين اللذين نقلناهما عمن نقلنا).
وعبدالرحمن السعدي في تفسيره، حيث ذكر هذا الاحتمال: (يخبر تعالى عن أكلة الربا وسوء مآلهم وشدة منقلبهم، أنهم لا يقومون من قبورهم ليوم نشورهم {إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس} أي: يصرعه الشيطان بالجنون، فيقومون من قبورهم حيارى سكارى مضطربين، متوقعين لعظيم النكال وعسر الوبال، فكما تقلبت عقولهم و {قالوا إنما البيع مثل الربا} وهذا لا يكون إلا من جاهل عظيم جهله، أو متجاهل عظيم عناده، جازاهم الله من جنس أحوالهم فصارت أحوالهم أحوال المجانين، ويحتمل أن يكون قوله: {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ} أنه لما انسلبت عقولهم في طلب المكاسب الربوية خفت أحلامهم وضعفت آراؤهم، وصاروا في هيئتهم وحركاتهم يشبهون المجانين في عدم انتظامها وانسلاخ العقل الأدبي عنهم).
ومحمد بن صالح العثيمين في (تفسير القرآن): (قوله تعالى: {لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس}؛ اختلف المفسرون في هذا القيام، ومتى يكون؛ فقال بعضهم، وهم الأكثر: إنهم لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ يعني: كالمصروع الذي يتخبطه الشيطان؛ و «التخبط» هو الضرب العشوائي؛ فالشيطان يتسلّط على ابن آدم تسلطاً عشوائياً، فيصرعه؛ فيقوم هؤلاء من قبورهم يوم القيامة كقيام المصروعين ـ والعياذ بالله ـ يشهدهم الناس كلهم؛ وهذا القول هو قول جمهور المفسرين؛ وهو مروي عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.
القول الثاني: إنهم لا يقومون عند التعامل بالربا إلا كما يقوم المصروع؛ لأنهم ـ والعياذ بالله ـ لشدة شغفهم بالربا كأنما يتصرفون تصرف المتخبط الذي لا يشعر؛ لأنهم سكارى بمحبة الربا، وسكارى بما يربحونه ـ وهم الخاسرون؛ فيكون القيام هنا في الدنيا؛ شبَّه تصرفاتهم العشوائية الجنونية المبنية على الربا العظيم ـ الذي يتضخم المال من أجل الربا - بالإنسان المصروع الذي لا يعرف كيف يتصرف؛ وهذا قول كثير من المتأخرين؛ وقالوا: إن يوم القيامة هنا ليس له ذكر؛ ولكن الله شبَّه حالهم حين طلبهم الربا بحال المصروع من سوء التصرف؛ وكلما كان الإنسان أشد فقراً كانوا له أشد ظلماً؛ فيكثرون عليه الظلم لفقره؛ بينما حاله تقتضي الرأفة، والتخفيف؛ لكن هؤلاء ظلمة ليس همهم إلا أكل أموال الناس.
فاختلف المفسرون في معنى «القيام»، ومتى يكون؛ لكنهم لم يختلفوا في قوله تعالى: {يتخبطه الشيطان من المس}؛ يعني متفقين على أن الشيطان يتخبط الإنسان؛ و{من المس} أي بالمس بالجنون؛ وهذا أمر مشاهد: أن الشيطان يصرع بني آدم؛ وربما يقتله ـ نسأل الله العافية ـ؛ يصرعه، ويبدأ يتخبط، ويتكلم، والإنسان نفسه لا يتكلم، يتكلم الشيطان الذي صرعه).
وسيد قطب في (في ظلال القرآن): ({لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ}.. وما كان أي تهديد معنوي ليبلغ إلى الحس ما تبلغه هذه الصورة المجسمة الحية المتحركة.. صورة الممسوس المصروع.. وهي صورة معروفة معهودة للناس. فالنص يستحضرها لتؤدي دورها الإيحائي في إفزاع الحس، لاستجاشة مشاعر المرابين، وهزها هزة عنيفة تخرجهم من مألوف عادتهم في نظامهم الاقتصادي؛ ومن حرصهم على ما يحققه لهم من الفائدة.. وهي وسيلة في التأثير التربوي ناجعة في مواضعها. بينما هي في الوقت ذاته تعبر عن حقيقة واقعة.. ولقد مضت معظم التفاسير على أن المقصود بالقيام في هذه الصورة المفزعة، هو القيام يوم البعث. ولكن هذه الصورة ـ فيما نرى ـ واقعة بذاتها في حياة البشرية في هذه الأرض أيضاً. ثم إنها تتفق مع ما سيأتي بعدها من الإنذار بحرب من الله ورسوله. ونحن نرى أن هذه الحرب واقعة وقائمة الآن ومسلطة على البشرية الضالة التي تتخبط كالممسوس في عقابيل النظام الربوي. وقبل أن نفصل القول في مصداق هذه الحقيقة من واقع البشرية اليوم نبدأ بعرض الصورة الربوية التي كان يواجهها القرآن في الجزيرة العربية؛ وتصورات أهل الجاهلية عنها).
ومحمد بن أبي زهرة في (زهرة التفاسير): ((الَّذِينَ يَأْكلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) فهذه الجملة السامية تصوير لحال المرابي، واضطراب نفسه، وقلقه في حياته، فالله سبحانه وتعالى يمثل المرابي في قلقه المستمر وانزعاجه الدائم بحال الشخص الذي أصيب بجنون واضطراب، فهو يتخبط في أموره وفي أحواله، وهو في قلق مستمر.
ومعنى التخبط الضرب في غير استواء؛ ولذا قيل في المثل: خبط عشواء. والمعنى على هذا أن الذين يأكلون الربا، ويتخذونه سبيلًا من سبل الكسب هم في حال لا يقرون فيها ولا يطمئنون، فلا يقومون ولا يتحركون إلا وهمُّ المال قد استولى على نفوسهم، والخوف عليه من الضياع مع الحرص الشديد قد أوجد قلقا نفسيا دائما في عامة أحوالهم، فهم كالمتخبط بسبب ما مسَّه الشيطان.
وإن تشبيه حال المرابين بحال المجنون الذي مسه الشيطان فيه إشارة إلى أن الشيطان قد يمسُّ نفس الإنسان فيصيبه).
والماوردي في (النكت والعيون): ({لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} يعني من قبورهم يوم القيامة، وفيه قولان:
أحدهما: كالسكران من الخمر يقطع ظهراً لبطن، ونسب إلى الشيطان لأنه مطيع له في سكره.
والثاني: قاله ابن عباس، وابن جبير، ومجاهد، والحسن: لا يقومون يوم القيامة من قبورهم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المسّ، يعني الذي يخنقه الشيطان في الدنيا من المس، يعني الجنون، فيكون ذلك في القيامة علامة لأكل الربا في الدنيا.
واختلفوا في مس الجنون، هل هو بفعل الشيطان؟
فقال بعضهم: هذا من فعل الله بما يحدثه من غلبة السوداء فيصرعه، ينسب إلى الشيطان مجازاً تشبيهاً بما يفعله من إغوائه الذي يصرعه.
وقال آخرون: بل هو من فعل الشيطان بتمكين الله له من ذلك في بعض الناس دون بعض، لأنه ظاهر القرآن وليس في العقل ما يمنعه).
ومن المفسرين من ذهب أن صرع الجن من زعامات العرب، فجاء القرآن على ما كان يعتقدون، كالزمخشري والبيضاوي، ومحمد رشيد رضا إذ يقول: (ثم إن التشبيه مبني على أن المصروع الذي يعبر عنه بالممسوس يتخبطه الشيطان، أي أنه يصرع بمس الشيطان له وهو ما كان معروفا عند العرب وجارياً في كلامهم مجرى المثل).
مع أنه لا يستبعد تأثير الجن في الإنسان، يقول: (فالآية على هذا لا تثبت أن الصرع المعروف يحصل بفعل الشيطان حقيقة ولا ننفي ذلك، وفي المسألة خلاف بين العلماء، أنكر المعتزلة وبعض أهل السنة أن يكون للشيطان في الإنسان غير ما يعبر عنه بالوسوسة، وقال بعضهم: إن سبب الصرع مس الشيطان كما هو ظاهر التشبيه ـ وإن لم يكن نصاً فيه ـ وقد ثبت عند أطباء هذا العصر أن الصرع من الأمراض العصبية التي تعالج كأمثالها بالعقاقير وغيرها من طرق العلاج الحديثة، وقد يعالج بعضها بالأوهام، وهذا ليس برهاناً قطعياً على أن هذه المخلوقات الخفية التي يعبر عنها بالجن يستحيل أن يكون لها نوع اتصال بالناس المستعدين للصرع، فتكون من أسبابه في بعض الأحوال).
وعندي أن مذهب القائلين بأن ذلك من زعامات العرب، بعيدٌ.. إذ إن القرآن الكريم جاء لتصحيح عقائد الناس وتصوراتهم، وليس إقرارها وتثبيتها!
وذكر الرازي وجهاً آخر نقلاً عن القفال وهو أن الناس يضيفون كل قبيح للشيطان، قال في تفسيره: (وذكر القفال فيه وجه آخر، وهو أن الناس يضيفون الصرع إلى الشيطان وإلى الجن، فخوطبوا على ما تعارفوه من هذا، وأيضاً من عادة الناس أنهم إذا أرادوا تقبيح شيء أن يضيفوه إلى الشيطان، كما في قوله تعالى: {طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤوسُ الشياطين}).
وذهب ابن حزم بأن الصرع يكون بالمماسة وليس الدخول، قال في (الفصل في الملل والأهواء والنحل): (وأما الصرع فان الله عز وجل قال " كالذي يتخبطه الشيطان من المس " فذكر عز وجل تأثير الشيطان في المصروع إنما هو بالمماسة فلا يجوز لأحد أن يزيد على ذلك شيئاً ومن زاد على هذا شيئاً فقد قال ما لا علم له به وهذا حرام لا يحل قال عز وجل " ولا تقف ما ليس لك به علم " وهذه الأمور لا يمكن أن تعرف البتة إلا بخبر صحيح عنه صلى الله عليه وسلم ولا خبر عنه عليه السلام بغير ما ذكرنا وبالله تعالى التوفيق. فصح أن الشيطان يمس الإنسان الذي يسلطه الله عليه كما جاء في القرآن يثير به طبائعه السوداء والأبخرة المتصاعدة إلى الدماغ كما يخبر به عن نفسه كل مصروع بلا خلاف منهم فيحدث الله عز وجل له الصرع والتخبط حينئذ كما نشاهده وهذا هو نص القرآن وما توجبه المشاهدة وما زاد على هذا فخرافات من توليد العزامين والكذابين وبالله تعالى نتأيد).
إذن..
هذه الآية (الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ) قطعي الثبوت، لكن ليس قطعي الدلالة، لذا حدث خلافٌ في تفسيرها، كما أن من أنكر تلبس الجن لا يكفّر..
جاء في موقع (إسلام ويب): (ونحن لم نقل إن من ينكر تلبس الجني بالإنسي منكر للكتاب والسنة، ولم نقل إن هذا الأمر ثابت بنصوص قطعية الدلالة، بل قلنا إن في هذا رداً لما جاء في الكتاب والسنة، لأننا نرى أن دلالة النصوص على هذا الأمر دلالة ظاهرة، ومع هذا فمن أداه اجتهاده من العلماء إلى خلاف ذلك فهو معذور ومأجور على اجتهاده بإذن الله).
وجاء في الموقع أيضاً: (ومع ذلك فلا يصح بحال الحكم على منكر ذلك بالكفر المخرج من الملة، لخفاء دليل هذه المسألة وكونه ليس قطعي الدلالة).
وقال الشيخ صالح الفوزان في (إعانة المستفيد بشرح كتاب التوحيد): (وكذلك الجن يمسُّون الإنس ويخالطونهم ويصرعونهم، وهذا شيء ثابت، لكن من جَهَلَة الناس من يُنكر صَرْع الجن للإنس، وهذا لا يَكْفُر، لأن هذه مسألة خفيّة، ولكنه يُخطّأ، فالذي يُنكر مسّ الجن للإنس لا يُكَفَّر، ولكن يضلّل، لأنه يُكذِّب بشيء ثابت، أما الذي يُنكر وجودهم أصلاً فهذا كافر).
طبعاً مع التحفظ على بعض ما قاله الشيخ الفوزان، فكما هو واضحٌ من دراسة الأدلة أن تلبس الجنّ لم يثبت بدليل صحيح صريح..
ولو كان هناك نص قطعي الثبوت والدلالة لكان مخالفه كافراً بلا خلاف..
والثابت القطعي من كتاب ربنا وسنة نبينا صلى الله عليه وسلم أن الشيطان يوسوس للإنسان ويزيّن له الباطل والشهوات والشبهات، ويدعوهم إلى الفحشاء والمنكر ويعدهم الفقر..