كان يراقبها منذ فترة ..
لم تكن لديه القدرة أو الملكة - بحكم طبيعته - على احصاء الدقائق و الثوانى التى ظل خلالها رابضا فى الظلام يراقب .. بل العكس .. كان مستغرقا فى الرصد و المراقبة بكل جوارحه .. و بتركيز شديد ساعده عليه جوعه الشديد ..
كان يمتلئ عزما و اصرارا هذه المرة على قنص ضحيته .. و كان يعلم تمام العلم أن الصيد لم يعد وفيرا كما كان فى الماضى .. و الفرائس تعلمت جيدا أن خروجها من جحورها بعد هبوط الظلام هو انتحار مؤكد .. لذا فلك أن تتخيل كم كانت غبطته بتلك الفريسة التى تتحرك بخفة و حذر فوق الصخور ، و لا تكف عن التلفت حولها مخافة أن يفاجئها هجوم مباغت ...
تأملها فى ضوء القمر الفضى الذى يغمر المكان .. بالرغم من نحولها تبدو بالفعل قادرة على اشباعه .. يكسو رأسها شعر اسود طويل .. أثناء تلفتها يسقط ضوء القمر على وجهها .. من هذه المسافة يلحظ عينيها الخضراوتين .. تشعان بريقا غريبا يحرك شيئا ما فى قلبه .. أحاسيس غريبة تتحرك بداخله .. ارتعاشة خفيفة على شفتيه .. تغيرات فسيولوجية فى بعض أعضائه تورثه مزيجا غريبا من اللذة و الألم ..
تلفحه من الخلف أنفاس حارة .. يلتفت برأسه .. يرى رأسا .. بل اثنين .. بل ثلاثة ..
ثلاثة رؤوس من فصيلته توقفت خلفه ، و قد التمعت الشهوة و الجوع فى عيونهم .. أحدهم يلعق شفتيه و أنيابه بلسانه الطويل ..
يرفع كفه ذات الأصابع الطويلة و المخالب الحادة فى رسالة فهمها ثلاثتهم .. هذه لى .. و سأعطيكم ما يكفيكم ..
كان الأقوى و الأشرس و الأسرع فى العشيرة كلها .. لذا فقد تلقوا الرسالة ، و تراجعوا بخفة على أطرافهم الأربعة .. وهم يحنون رؤوسهم فى خنوع ..
الفريسة تبتعد .. لذا فقد تحرك هو أيضا برشاقة بين الصخور و الأغصان محاذرا بدوره أن يدوس على غصن أو ورقة شجر قديمة على الأرض فيصدر صوتا ينبه الفريسة اليه ..
من بعيد .. بعيد .. تلتمع أضواء عديدة .. لا يعلم ماهى .. فقط يعلم أن أسوارا عالية تخفى مصدرها .. و يحرس هذه الأسوار .. كائنات ضخمة تحمل عصىّ طويلة تصدر ضجيجا مروعا .. بل و تقتل أيضا ..
نعم .. لا ينسى يوم أن اقترب و وليفته - و كان بطنها منتفخا بالصغار - من أحد هذه الأسوار ، و رآهما كائن من تلك الكائنات الحارسة ، و رفع نحوهما عصاه الطويلة و .. بروووووم ..
ضجة هائلة أفزعته و جعلته يثب بخفة على قوائمه الأربعة و يهرب محتميا بالصخور .. ما أذهله ساعتها أن وليفته - التى كان يشعر نحوها بأحاسيس صافية من نوع خاص - لم تتبعه .. رقدت على ظهرها ، و راح جسدها يهتز ، و ذلك السائل الأحمر أخذ يتفجر و يتدفق من رأسها .. و كانت تلك المرة هى الأخيرة التى رأى فيها وليفته ..
و بشكل ما ربط عقله بين تلك العصىّ الطويلة ، و بين عدم ظهور وليفته مرة أخرى .. لذا فصار عليه أن يبتعد كلما رأى احدى تلك الكائنات ذوات العصىّ .. و ألا يقترب على الاطلاق من تلك الأسوار ..
و لكن تلك الفريسة كانت تختلف .. نعم هى قريبة الشبه من الكائنات ذات العصىّ .. الا أنها تبدو مختلفة عنهم .. هى أخف و أرق و أضعف و أجمل هيئة .. و الأهم ليست لديها احدى تلك العصىّ الخطيرة ..
تتحرك مبتعدة .. و يتحرك هو معها ..
طائر ليلى قريب ينزعج لخطواته .. يخفق بجناحيه بصوت مسموع و يحلق مبتعدا .. تلتفت الفريسة مفزوعة غير فاهمة الى مصدر الصوت تتعلق عيناها بالطائر المحلّق ..
عند هذا .. يقرر أن الوقت قد حان .. و بمرونة مذهلة ، و رشاقة غير عادية يغادر مكانه بين ظلال الأغصان و الصخور .. يتقوّس ظهره ثم يثب .. وثبة عالية هى آية فى الرشاقة و الخفة .. وثبة أخرجته من بين الأشجار و الخرائب و أبلغته فريسته التى فوجئت به يهوى عليها من السماء ..
أطلقت صرخة مدوية مليئة بالرعب و الفزع و هى تسقط على ظهرها ، و تشعر بجسده العارى المرن مفتول العضلات يعتليها ..
يسمعها هو تصرخ و تهتف :
- لااااااااااااا .. حرام عليك .. سيبنى ..
لم يفهم شيئا .. لو كانت اكتفت بالصراخ لكان قد فهم أنها مرعوبة ترغب فى الخلاص .. فضلا عن أنّه لم يميز هتافها عن الصراخ العادى ..
تقاوم بحركات يائسة متشنجة لا تجدى شيئا مع عضلاته المتكوّرة .. يلمح عينيها الخضراويتين و قد التمعتا بسائل شفاف كأنه الماء الذى يرويه راح يسيل على وجهها ..
مرأى العينين الواسعتين الجميلتين ، و قد أطل منهما مزيج من الرعب و الرجاء و الاستجداء يحرك تلك الأحاسيس فى أعماقه .. أحاسيس قريبة الشبة من تلك التى كانت تربطه بوليفته .. أحاسيس يشعر بها تنبعث من أعماقه و تسرى فى أعضائه بقوة .. حتى ليكاد يرفع كفه و يمسح بها على هذا الوجه الجميل المبتل ..
و لكن .. معدته تتقلص بقوة مصدرة صوتا مسموعا .. و كأنها تعترض على تلك الأحاسيس الوليدة ، و مذكرة اياه بجوعه القارص .. و بأن هذا الصيد اذا ضاع فقد لا يتوفّر بسهولة خلال الفترة القادمة ..
و مع تصاعد صراخ بطنه من فرط الجوع تتلاشى تلك الأحاسيس الرضيعة على الفور ، و يرفع هو عقيرته الى السماء ليصرخ صرخة رهيبة أشبه بزأير أسد جائع ثم يهوى بأنيابه الحادة على عنق الفريسة ..
و فى الثانية التالية أطلقت الفريسة صرخة ألم عاتية أعلى من كل صرخاتها السابقة ، ثم خمد صوتها تماما ، و اختلط صفير الرياح بأصوات تمزيق و ازدراء لحم الفريسة ..
و أسرع هو يفصل لنفسه جزء محترم من لحم الفريسة جذبه بعيدا ، و ترك باقى الجسد لرفاقه الثلاثة الّذين انقضوا عليه و راحوا ينهشونه بشراسة و شراهة .. و بينما هو يمضغ طعامه باستمتاع ، توقفت عيناه لحظة أمام عمودين طويلين يحملان قطعة بيضاء لم يميّز بالطبع أنها من الخشب ، و كان لها طرف مدبب يشير نحو تلك الأسوار العالية التى فقد عندها وليفته ..
و مع انشغاله بالطعام لم يتوقف انتباهه طويلا عند تلك القطعة الخشبية ، و بالتأكيد لم يعد يميّز - منذ عهد بعيد - تلك الخطوط المرسومة عليها .. و حتى لو ميّزها فلم يكن ليفهم أنها تقول :
" مارينا - 8 كيلومتر "
_ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _ _
- تمّت بحمد الله -