الحرب على غزة حرب فرقان وعزة
توطئة
لم يدر يوما بخلد أحد أن تكون بقعة جغرافية لا تتجاوز مساحة سم خياط من أرض الأمة مسرحا يغير بوقائعه وإحداثياته واقع الأمة ومستقبلها بل وواقع العالم كله من شرقه إلى غربه. ولم يدر يوما بخلد أحد أن تكون أكثر المعارك في التاريخ اختلالا في موازين القوى معيارا على علامة فارقة فيه وفي مستقبل الأجيال القادمة. هي حالة لا يعقلها رشد ولا يعيها منطق ولكن من قال بأن قدر الله يخضع لمعايير البشر ولمعطيات المنطق والعقل؟ ومن قال بأن الكون يستقيم لمنطق وعقل وحسابات وموازين؟؟ إن شواهد التاريخ بل وشواهد العقل والمنطق تؤكد على خطأ من يقول بذلك وإلا لكان المنطق واعتبار معايير التفوق وموازين القوى حفظ لجبابرة التاريخ من ملوك وأباطرة وفراعين عروشهم ولما تداولت الأيام بين الناس فهوت عروش وعلت جيوش وسارت نعوش.
إن شواهد التاريخ والمنطق تؤكد أن محاربة الطغيان ما كان يوما بقوة موازنة أو حتى مقاربة بحال ، وإنما كانت الغلبة دوما للطواغيت في العدة والعتاد ولم يمنع ذلك يوما المقاوم من مناهضة الطاغوت حتى أسقط مرة بعد مرة ولو استسلم المقهور لحكم الطاغوت وجبروته وأعمل العقل في حسابات موازين القوى لما استمرت بالبشر حياة. ولعل أبرز شاهد على ما نقول هو ما نعرف جميعا كمسلمين من حرب الفرقان الأولى حرب بدر التي كانت حدا فاصلا بين مرحلة ضعف الإسلام وانطلاق قوته لتحكم العالم كله إذ اجتمع عليهم أشرار الأرض بالآلاف مزودين بعدة وعتاد ومؤازرة من شرق وغرب وما زاد عددهم يومئذ عن بضع مئات فانتصرت إرادة العقيدة بفئة قليلة على جحافل الطغيان والكفر بفئتهم الكثيرة لأنهم صدقوا الله والتزموا أمره وعلموا أن النصر إنما من عند الله تعالى.
ما الذي يحدث في غزة؟؟
مخطئ من يظن أن هذه الحرب الهمجية البربرية الشرسة هي حرب على فصيل ما أو إقليم ما أو شعب ما. إنها حرب على منهج المقاومة أين كان وحيث وجد ، وإنها استكمال لحروب سبقتها في فلسطين وفي العراق وفي لبنان. ولا أحسب يغيب عن المتأمل بعين حصيفة مدى التشابه مع كل معطيات وآليات إدارة المعركة بين ما حدث في حرب أمريكا الخبيثة على العراق وبين ما يحدث الآن في حرب زبانيتهم على شعب غزة البطل ، كيد ومكر ومؤامرات سرية وعلنية ثم اتهامات وتلفيقات كاذبة باستخدام سلطة الإعلام المسيطر على العالم ثم حصار وتجويع لسنوات حتى لا يكاد المرء يجد قوت يومه ثم تهديد وترويع ثم قصف وقتل بالمئات وبالآلاف ثم اجتياح على أرض محروقة لا يبقون فيها على شيخ ولا على طفل ولا على مسجد ولا على بيت. إنها حرب ضد تيار المقاومة تستهدف قتل كل حر أبي من أبناء الأمة ، وقهر كل مقاوم ومناضل ضد قوى الطغيان والعدوان ، وحرب على كل من قال لا إله إلا الله مخلصا صادقا مؤديا لحقها ومدركا لمعناها ودورها. إنها حرب تستكمل مسلسل الحروب الغربية التي تقودها أمريكا لولادة شرق أوسط جديد كما أعلنوا مرارا ؛ شرق أوسط يكون بديلا للوطن العربي ويكون متقبلا للكيان الصهيوني الغاصب وتابعا للهيمنة الأمريكية الصهيونية مقابل أن تحفظ العروش للأنظمة ولأشخاص بأعينهم ويكون معيار أحقية أحدهم بالقيادة هو مقدار ما يعلن من ولاء لهم وخنوع لقرارهم وتنفيذ لسياساتهم.
وقد قدر للحرب على غزة أن تكون معركة فرقان ثانية في تاريخ الأمة الإسلامية ذلك أنه وبعد أن دمرت أمريكا بظنها مراكز القوة العربية المقاومة للهيمنة والمناوئة للعدوان لم يبق أخيرا أمامهم المقاومة الإسلامية في فلسطين عامة وفي غزة خاصة ليكون في سحقها كما يتوهمون سحق لكل هذا التيار وفرض واقع مستسلم في المنطقة يخشى قوة نيران العدو ولا يفكر يوما في التصدي له ، وكانت حساباتهم بالطبع تكمن في إحكام سيطرتهم على المنطقة التي تعتبر سهلة من الناحية العسكرية بتطويقها بحرا وبرا وجوا ثم فرض حصار لسنوات يضعف قدرة الشعب والمجاهدين ويوهن نفوسهم بالعنت والشظف حتى إذا جاء الوقت المناسب أنهوا المهمة بيسر ونجاح معتمدين على عدة عوامل مساعدة دولية وإقليمية.
ولقد تم ترتيب هذه الخطة منذ أكثر من سنتين باجتماع أمني سري في دولة عربية ووضع التصور المشترك باعتبار حماس خصوصا والمقاومة عموما عدو مشترك للكيان الغاصب وللدول الإقليمية باعتبار أن وجود حماس يهدد عروشهم وينذر بتحرك شعبي يغير معادلات ومنهجيات التعاطي السياسي في المنطقة.
لماذا غزة؟؟
لأنها ببساطة وكما أسلفنا أيسر الجغرافيات لعمل عسكري ناجح في محاطة بالكيان الصهيوني من الشمال والشرق وبالبحر الذي يسيطر عليه الكيان من الغرب ومعبر ضيق أغلق في أمامهم من الجنوب. ولأن غزة ذات كثافة سكانية عالية تحقق للعدو الصهيوني ما يشبع سغبه من دماء وأشلاء لتكون عنوانا لقدرته البربرية ومثالا رادعا لكل من تسول له نفسه أن يقاوم الهيمنة في يوم ما. ثم لأن غزة هي مركز المقاومة الإسلامية الصادقة الجادة التي استطاعت أن تكون جيلا ربانيا كلما قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم زادهم ذلك أيمانا وقالوا حسبنا الله نعم الوكيل. ثم إنه الاجتباء الرباني لهؤلاء القوم فمثل هذه المواقف يجتبي الله ويختار من عباده الذين ارتضى من أراد أن يمن عليه بإحدى الحسنيين أو أن يتخذ منهم شهداء فالشهادة والنصر اتخاذ واجتباء من الله تعالى بما شاء وكيف شاء.
إن غزة تمثل اليوم كل الأمة وتلخص كل قيمها وعزتها وكرامتها ، وتمثل الجبهة المتقدمة التي تجاهد في سبيل الله انتصارا لدينه وحفظا لأوطان المسلمين واستعادة للقدس وذودا عن عزة وكرامة الأمة كلها. إن غزة اليوم هي الأمة كلها إن انتصرت بإذن الله تعالى انتصرت بها الأمة كلها وعز الدين كله ولو كره الكافرون ، وإن ضاعت غزة أو انكسرت شوكتها لا قدر الله ضاعت الأمة وانكسرت شوكتها لأجيال طويلة.
هل النصر قادم؟؟
أقول وباختصار ما قلت لكل من سألني منذ بداية العدوان بأن النصر قد تحقق بحول الله منذ الضربة الأولى بما تلاها من صمود ومقاومة. نعم النصر مؤكد ومؤزر بإذن الله تعالى وعدا من الله ولا يخلف الله وعده ، وما كان تعالى ليتر هؤلاء المجاهدين والمرابطين الصابرين أعمالهم ولا أن يذرهم على ما هم عليه وهم الذين اتبعوا سبيله واتخذوه وليا ووكيلا فأنزل الله عليهم سكينته وألهمهم الرضا والصبر على ما ابتلاهم فيه وما كان جزاء الصبر إلا النصر وأكثر وأكثر (إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب.
ولعل المرء يدرك أن النصر في مثل هذه المعارك لا يقاس بحسم عسكري فحسب وإنما يأخذ جملة من الأبعاد الجزئية والكلية التي تحدد مجمل النصر وتبين مداه ، وما جزمي بأن النصر قد تم بشكل كبير وبقي أن يمن الله على أبطال غزة بالنصر المؤزر إلا باعتبار ما تقدم من توضيح.
أما أول وأهم مرتكزات النصر التي يعتد بها فهي تحقيق الغايات الكلية من الحرب ، وفي هذا السياق نجد أن قوى المقاومة الباسلة في غزة قد حققت غاياتها ومن الله عليها بالمزيد. لقد تحقق للحركة المقاومة ما أريد من انتصار للمنهج وللعقيدة تماما كانتصار منهج وعقيدة ذلك الغلام من أصحاب الأخدود الذي أراد الطاغية أن يقتله خوفا منه على عرشه وملكه فما استطاع حتى قال له الغلام وقد عجز: إن أردت أن تقتلني فاجمع الناس في صعيد واحد ، واصلبني على جذع ، ثم خذ سهما من كنانتي ، ثم ضع السهم في كبد القوس ، ثم قل : باسم الله رب هذا الغلام ، ثم ارمني ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني فلما فعل قتله قال الناس جميعا: آمنا بالله رب هذا الغلام. هنا قد نجح الطاغية في قتل الغلام المؤمن ولكن الغلام هو من هزمه بانتصار منهجه وعقيدته ، وهذا ما فعلت غزة ، وما فعل أهل غزة إذ انتصر منهجهم المقاوم وعقيدتهم الصادقة فإن قتلوا فهم شهداء وإن انتصروا فهم شرفاء وقادة عظماء ،.
وأما ثاني هذه المرتكزات فهو نصر الصمود أمام أعتى قوة وآلة مدمرة ؛ صمود على الأرض وصمود على السلاح وصمود في النفوس حتى أطاش هذا الصمود ما تبقى من عقلية العدو فأعلن "سياسة الجنون" وألقى بكل القذائف والقنابل والأسلحة المحرمة دوليا والتي تستخدم لأول مرة ضد شعب أعزل ولم يسلم من ذلك القصف لا بشر ولا شجر ولا حجر بل لا طفل ولا شيخ ولا مسجد ولا بيت. إنها كلها مؤشرات على النصر وما النصر إلا مع الصبر.
وأما ثالث هذه المرتكزات فهو فشل العدو في تحقيق أهدافه والتي تراجعت شيئا فشيئا حتى اضمحلت إلى مجرد تحقيق انتصار سينمائي على حساب العزل من أطفال ونساء وشيوخ فلسطين وبمزيد من الحرائق والإصابات كما يحدث ويتزايد يوما بعد يوم. لقد فشل العدو الصهيوني في إيقاف الصواريخ بل زادت وزاد مداها ، ولم يستطع أن يقتلع المقاومة بل امتدت حتى أصبحت نصف الأرض وأكثر ولم يتمكن من قتل المقاومين فقتل المواطنين الآمنين.
وأما رابع هذه المرتكزات فهو أن معركة غزة كشفت الوجه القبيح لهؤلاء الصهاينة لمن جهلهم وأظهرت مدى عنصريتهم وحقدهم وجبروتهم وامتد هذا كله إلى دول كثيرة تؤذن مع معطيات المعركة الأخرى إلى بداية نهاية هذا الكيان وتحرير أرض فلسطين كل الأرض بأكف المقاومة المؤمنة المتوضئة.
وأما خامس هذه المرتكزات فهي في إزالة الرهبة من هذا العدو التي استمرت لعقود والتأكيد على أن العجز العربي إنما هو وهم دسه في ضمير الأمة مغرضون من الداخل ومن الخارج بتأثير وسائل الإعلام المشبوهة والأقلام المأجورة واندحرت حكاية الجيش الذي لا يقهر من ذاكرة الشعوب العربية الحرة التي أعادت لها المقاومة حياتها وحيويتها وسنظل ننتظر أخر هذه المرتكزات باندحار هذا الهجوم خاسئا حاسرا مهزوما بإذن الله تعالى.
حرب فرقان.
هي بالتأكيد كذلك يشير إليها كل المعطيات والعوامل موضحة بأن الذي كان قبل هذه الحرب لن يستمر بحال بعدها مهما كانت نتيجة هذه الحرب العسكرية النهائية. إن الحركة الدافعة التي ولدتها هذه الحرب وهذا الصمود الخرافي من جانب والمجازر الوحشية من جهة أخرى أيقظت في الأمة إدراكها بحقيقة كينونتها وانتمائها العربي والإسلامي والإنساني ، ووضعت التبعة في ذمة كل من شهد هذا الجور وبات شاهدا عليه بمال يمليه عليه ضميره ودوره وأمانته في غبراء الذمة ليس بمنهح رد الفعل الذي يهب سريعا ويخبو سريعا بل باعتماد آليات ومنهجيات مبادرة ومقاومة تواصل الطريق نحو تحرير فلسطين وقبلها تحرير الأمة كلها من تسلط الظلم والجور والهوان على الأمة كلها ، وتحرير النفوس من التبعية والخذلان وحب الدنيا وكراهية الموت.
إنها حرب تعلم الأطفال كيف يصبحون رجالا ، وتعلم الجبناء كيف يمكن أن يكونوا أبطالا ، وتعلم المتنعمين في ملذات الدنيا دون اهتمام بأمر الأمة وبأمر شعوبها ودون احترام للقدر واهتمام بالقدرة أن حياة العز في الخنادق خير للحر من حياة الذل بين الحدائق.