ثورة الميلاد في
"القصة" المصرية "الشاعرة"
بقلم/ د. رمضان الحضري
حطم الشعب المصري النظريات السياسية المُعلّبة و المستوردة ..... يوم 25 يناير عام 2011 ، و ليس هذا إنجازاً بقدر ما هو إعجاز .... جعل القلب يسبق اليدين في التصفيق ... حيثُ جاءت الثورة مكذبة ظنٍّ من يرى استسلام الإنسان المصري ، جاءت الثورة مُكذبة للفهم _ الأنجلو أمريكي _ عن طبيعة الشعب المصري،... و تحول الفكر المصرى ، و الثقافة المصرية من ذيل القائمة إلى حمل راية الفكر و الثقافة ، ..... فقد بدأ التاريخ بها ، ويبدأ التاريخ مرة أخرى بها .. مصر تلد بدون حمل .. و إن تكلمت علّمت .. وقد جاء ميلاد ثورة الشعب مواكباً لميلاد ثورة أخرى فى الأدب ..... نعم هى ثورة ... و سوف تتبعها دول أجنبية ، و كالعادة ينسبون لأنفسهم الفضل ، و يأتى مرتشوا الفكر ليعلنوا أنها مدارس .... كما هو الأمر سابقا ....ً مع اختراعات ابن الهيثم ، فى اختراعه للنظارة الطبية و عدسات التصوير ، و كما هو حال الأدب مع نظرية اللفظ و المعنى لعبد القاهر الجرجانى .....التى طورها الأوربيون فى روسيا و جمهورية التشيك السابقة و أسموها بالبنيوية الشكلية ،.......... و كثيرة هى النظريات العربية فى الفكر و الثقافة التى أقامت عليها دول أجنبية حضارتها ، ثم تنكرت لأصحابها ..
و سوف تحاول هذه الدراسة : التنظير لميلاد فن عربى جديد فى مصر ،.... وهو ما اتفق على تسميته بـ"القصة الشاعرة"...... و يجب التنويه إلى الشاعر والناقد المصرى "محمد الشحات محمد" أمانة للتاريخ و التأريخ ..... بأنه أول من أنتج هذا الجنس الأدبى الكتابى ..
وكثيراً مايظن النقاد، و هم قليلون فى الوقت الآنى .. أن الجنس الأدبى يتوالد من أجناس أدبية أخرى ..... ، و هذه المقولة صحيحة إلى حد ما ، و لكنهم ينفون فى الوقت ذاته عدم اتصاله بالفنون الأخرى ، ...... باعتبار أن الاختراعات إنما تأتى فى العلوم الطبيعية دون الأدبية ،.... او الاجتماعية.
و هذه النظرة تعنى اغتيال الابتكار لدى المفكر و الأديب.
فقد كان الشاعر العربى يكتب شعره قصة ، ...... و يكتب قصته شعراً ،..... منذ ظهور الشعر العربى .
و يمكننا أن نذكر المنخل اليشكرى ، ....... و هو من الشعراء العرب قبل الإسلام ، وهو يحكى قصته فى دخوله إلى خدر عنيزة :
و لقد دخلت على الفتاة الخدر فى اليوم المطير
الكاعب الحسناء ترفل فى.... الدمقس و الحرير
فدفعتها فتدافعت .......مشي القطاة على الغدير
و لثمتها فتنفست ............كتنفس الظبى الغرير
صاحت و قالت ما ......بجسمك منخل من حرور
و أحبها و تحبنى ............و يحب ناقتها بعيرى
و كذا امرؤ القيس، و من بعدهما ابن ربيعة ، و جميل بن معمر ، و قيس بن الملوح .. و بشار بن برد ، و أسماء لا حصر لها ....... حتى نصل إلى شعرنا العربى الحديث .
فنجد نجيب سرور يكتب ياسين و بهية ...... و يسميها قصة شعرية .
بيد أن الأمر أصبح عند "محمد الشحات محمد" مختلفاً ....... فهو لا يكتب شعراًً فى القصة .
بل هو يكتب جنساً أدبياً جديداً ........ أسماه "القصة الشاعرة" ..
فالقصة الشاعرة تعنى جنساً أدبياً جديدا ....ً ، يطرحه الشاعر برؤيته للجنس الأدبى الجديد فى ذاته ،.... و دون مقدمات أو فروض ، ثم يدلل على صدق هذه المقدمات و تلك الفروض ، ...بل هو يطرحه للعمل إنتاجاً و تنظيراً ..
و هذا الجنس الأدبى لا يدمج بين الشعر و القص أو العكس ... بل إنه جنس يجعل الكلمة فى
"القصة الشاعرة" رباعية المعنى .. وهذا ما سوف نفصله فيما بعد .
و يأتى التناول "للقصة الشاعرة" بتنظير نقدى مناسب لها ، ..... فلا يمكننا أن نطبق عليها نظرية أدبية سابقة لها ، ...... حيث إن النظريات الأدبية السابقة تنظر لإنتاج سابق ، و بالتالي فالقصة الشاعرة تحتاج إلى نقد ..... يُمكنُ أن نسميه "نظرية القصة الشاعرة" ، وذلك من وجهة نظر خاصة ..... للابتعاد عن المفردات والمصطلحات النقدية المتوارثة ، و سوف يأتي بحثي من خلال التعرض لثلاثة نقاط فقط تاركاً لغيري ليدلي بدلوه ...... و هذه النقاط هي :
أولاً : القصة الشاعرة و فكر الفرد الجمعي .
ثانياً : الكلمة اتصال/انفصال بين الإيقاع و الصورة و الحدث .
ثالثاً : الجملة الشعرية شخصية جديدة .
أولاً : القصة الشاعرة و فكر الفرد الجمعي : -
وُلدتْ القصة الشاعرة عملاقاً قوياًّ كاملاً ،
هي اختراع جديد فرّضته الحاجة ، و أقصد الحاجة هنا وجهة النظر الأدبية المتطورة ، ....... و ليس ذلك حكراً على مخترعه محمد الشحات محمد ، و المنتج ليس فرضاً ........ في التلقي أو الانتاج المتماثل ، فحرية التلقي و الانتاج لا يملكها المخترع .
لقد سبقتني دراسات عديدة ....... و تناولات مختلفة للقصة الشاعرة ، ...... و لكن ظلّت هذه الدراسات و التناولات في الدائرة النقدية السابقة ...........كَمَنْ أراد أن يجمل بيته ..... فجمل البيت السابق له .... و اللاحق له ، .... و ترك بيته خرباً ، ...... فما فعله أنه جعل عيوب بيته أكثر وضوحاً .
فحينما نريد أن نتناول القصة الشاعرة .... لابد أن نبحث أولاً في مفهومها ، ... و كيفية كونها فكراً فردياًّ جمعياًّ .
(أ*) مفهوم القصة الشاعرة : -
حينما سُئل جيمس جويس عن الرواية قال جملةً أعجبتني :-
"الرواية هي الرواية ، مثل الفلوذج هو الفلوذج" ، ......... فالماء قد فسّرته بالماء بعد لأي ، و لذا سأحاول من جديد في إيجاد تعريف للقصة الشاعرة ، ... فهي "جنس أدبي جديد يختزل ويدمج القصة و الشعرفي الكلمة و الجمل المتوالية"
فهذا جنس شعري سردي يعتمد الاختزال و التكثيف كتقنية جديدة ، فهذا الجنس الجديد يحاول وضع الكلمة في فضاء فكري جديد ، ....... حيث تنقل الحس و الحدث، ...... و يتداخل الإيقاع و الشخصيات ، و سيتضح ذلك في النقطة التالية ، و هذا يفرض التساؤل الذي أسمع أصوات كل من سيقرأ هذا الكلام ، حينما أقول : هل يقدر كل الشعراء أو كتاب القصة على إنتاج هذا النوع أو الجنس الأدبي؟ ..
استمع لإجابتهم جميعاً .... يقولون :- نعم ..
لا يُمكن أن أضع شروطاً من عندي ..... يجب توافرها في منتج نص "القصة الشاعرة" ، بيد أن النص نفسه هو الذي يُملي شروطه على كاتبه ، .... فلا يكفي التجديد في الكلمة أو الصورة أو الحدث أو الإيقاع ، ..... حيث أن هذا الجنس الأدبي هو اختراع جديد ، .... فلابد أن يمتلك المُنتِج للنص هذه القدرة على الاختراع و تقديمه ، ..... فلن يكون الفضاء الزماني و المكاني في "القصة الشاعرة" موقعاً للأحداث ...بقدر ما سنرى هذين الفضاءين عمودين في حركة الأحداث ، بل يمكن اختراع فضاءات أخرى ، و ابتكار شخصيات و أحداث و إيقاعات و صور أخرى لتتناسب مع هذا الجنس ، ..... و هذا يعني بعبارة أخرى أن يمتلك المنتج القدرة على نقلنا من الواقع الأدبي القديم إلى واقع أشد إيهاماً و تصديقاً ، .... بيد أن الكاتب هنا لا أستطيع أن أسميه شاعراً أو قاصاً ، و لكن لابد أن أُسميه "الشاعر قصة" أو "القاص شعراً" ، ...... و كلا الاسمين صحيح ، ........ و لكنني أختصر في تسميته بـ "مبدع القصة الشاعرة" ،
و نص "القصة الشاعرة" ..... يشترط في مبدعه أن يكون شاعراً و قاصاً ... بنفس الدرجة في الإنتاج ، و أعلى المستويات في الابتكار ، و هذا ما يجعلني أرى أن هذا الفن سيكون أطول الفنون عُمْراً ..... و أقلها إنتاجاً حقيقياًّ ،
أماَّ الإنتاج الذي سوف يكتب تحت اسم هذا النوع ، ....... فلن يُحصيه ورق
فالقصة الشاعرة "فلاش" حدث و حس ،....... فلاش صورة و شخصية ، ..... فيلم رومانسي في لحظة .
( ب ) : القصة الشاعرة فكراً فردياًّ جمعياًّ : -
لا يُتوافر الفكر الفردي الجمعي إلاَّ في قيادات العلماء و الأدباء و المثقفين ، ...... و أعني به هنا المرء الذي يقدم لغيره ما ينفعه ، و لايدري الآخذ لهذه الحكمة قيمة ما يحصل عليه من المنتج ، بل قد يعترض عليه ..أو يحاربه جهلاً أو استكباراً ، و هذا ما يجعل أصحاب الفكر التجديدي مضطهدين عبر الأزمنة ، و حتى لوكانوا رسلاً أو أنبياء .
و يعنينا في وقتنا هذا –أكثر من أي وقت مضى- أن نساند الابتكارات الشخصية ، حتى إذا لم نتمكن من فهمها ، فالإجماع على الخطأ - فى الوقت الأنى - أكثر من الإجماع على الصواب وقد ثبت هذا عبر كل العصور ، و قتل أفلاطون لآرائه الصحيحة في الفلسفة وقتل جاليليو لصحة نظرياته فى العلوم الطبيعية ، و قتل عمر بن الخطاب لآرائه الصحيحة في الدين
فأصحاب التجديد متهمون عبر العصور ،.... و حينما يثبت المبدع على حق اخترعه ، و يهجره الآخرون ، فلا نطلب منه أن يساير الجماعة ، و لا نرى هنا صحة للديمقراطية ، بل سيكون هنا هو الجماعة رغم فرديته ، لأن الإجماع إذا لم يكن على صواب أو خير لا يُمكن تسميته بالإجماع ، بل يُسمّى حينئذٍ بالتآمر على قتل الفكر و الابتكار .
فحينما يقول محمد الشحات محمد في القصة الشاعرة "ضد مجهول" :-
"جرائم هند فعلٌ دون فاعله ، فتحْتُ العين أقرأُ هذه الدعوى ... أسرّتْ كلبةُ الشرطيِّ أمراً أدهش الحاسوب ، و انسحبتْ على وجهي قضايا ضدّ مجهولٍ .. فهلْ أُدْلي بأوردتي؟!"
يُقدّم "مبدع القصة الشاعرة" هنا صورة شعرية حدثية في شخصيات إيقاعية ، تنتظمها شبكة من العلاقات المتداخلة ، و المتخلّلة في بعضها ، فاذا ما بحثتُ عن تعالق خيوط النص ، فلا يُمكنني أن أبحثُ في العلاقة بين الجريمة و الشرطة ، و القضايا ضد مجهول ، فسيكون البحث هنا في القانون
و لا يُمكن ربط العلاقة بين الدهشة و الحاسوب حتى لا يُصبح بحثاً في التكنولوجيا .
و البحثُ في فعل دون فاعله سيكون في اللغة و البلاغة
كلُّ هذه العلاقات سوف تفرغ النص من وجهته ، و لا تجعله إبداعاً بالمرة ، بل سيصبح الأمر كقطع أوراق الوردة للبحث عن مكان العطر فقط ، أو جمال الألوان فقط ..
إن شبكة العلاقات في "نص القصة الشاعرة" لا تقبل التفصيل والتفصيص ، و سيصبح من أكبر أخطاء النقد تفصيلها ، أو أخذ المفردات و الصور و معالجتها ببحث العلاقات الموجودة بين بعضها البعض حتى داخل النص ..
إن وجهة النظر في النص........ هي البؤرة التي تجعل مثل هذا النص متكاملاً ..
فالقصة هنا تفعيلة و شخصية و صورة متوالية نصّية ، ....... تبدأ بـ "جرائم" و تنتهي بـ "أوردتي؟!" .
فالإيقاع سرد ، و السرد صورة ، و الوصف حركة ، و الحدث عرض و خبر ، فجمع المبدع فنون القول في نصه "ضد مجهول" .. ،
و عند تناول هذه النصوص في التطبيق ...... ستتضح المناطق الجديدة في هذا الإبداع
ثانياً : الكلمة اتصال/انفصال : بين الإيقاع و الصورة و الحدث : -
لن يُقدم النقد افتراضاً أو تحديداً للأهداف من رؤية "القصة الشاعرة" حتى لا يقود هذا الافتراض إلى البحث عن براهين و دلائل تثبت صحة الفرضيات ، ..... كما أن تحديد الأهداف سوف يُفقد النص لذة الاختراع ، و الذي – ربما جاء مصادفةً - كغيره من الاختراعات في العلوم الطبيعية . ...... فقد يخترع الانسان أدبا أو ألة
و هذا ما يجعل الكلمة في النص حلقة مركزية ..... ترتبط بها كل الحلقات .
الكلمة في "القصة الشاعرة" مسمار نشنق أو نزف عليه كل المفردات المجاورة ، و الشخصيات و الأحداث و الصور . فالكلمة فى النص عيد أو مأتم.... أغنية أو رثاء .
أعني أن الكلمة في النص هنا .... _ و لو كانت حرف جرّ أو غيرها _ فإن أهميتها تفوق تواجدها في نصوص غير هذا الجنس .
فالكلمة الأحادية في القصيدة الغنائية ،... أو الثنائية في القصة أو القصيدة الدرامية ،.... و الكلمة ذات البعد الثالث كما أسماها "ت . س . إليوت" لن تكون ترساً في هذا النص "القصة الشاعرة" .
و هذا ما جعل الدراسة تشير سابقاً إلا ضرورة أن تكون الكلمة في "القصة الشاعرة" رباعية الأبعاد .. ، فالبعد الرابع للكلمة هنا هو البعد الاختزالي و الاندماجي .
بمعنى أن الكلمة تؤدي الغنائية بالإيقاع و الثنائية بالقص ، و البعد الثالث بالإشارة للمضمر في داخل المبدع ، و البعد الرابع في الاختزال و الاندماج .
و سيكون التفصيل هنا للبعد الرابع ، فالمبدع محمد الشحات محمد يقول في القصة الشاعرة "خلف الساتر" :-
"كانت قد صفّتْ موروثاً عن آخر محميات الورق السالف ، وصفتْ في التقرير الإخلاء مواعيد الحرب على السدّ و مصفى الوادي و جدار المنطقة الخضراء .. ، توالتْ مسودّاتٌ للفكر القوميّ و إعلان الرفض لمشروع معونات الشعب الزاحف ، هجم السيلُ ، و عادتْ خلف الساتر ."
لا يصلح التقسيم –من وجهة نظر خاصة- نهائياًّ في النص الإبداعي "للقصة الشاعرة" ، فإذا تمَّ التواصل مع النص لغوياًّ ، فإننا سننتج نصاًّ صرفيا و نحوياًّ و بلاغياًّ ، و إذا تعاملنا معه شعرياًّ ، فإننا سنغرق النص في تصويرياته ، و كذا إذا تعاملنا معه حكائيا ، تماماً كصاحب حوض لأسماك الزينة ، حينما أراد أن يشرح و يفصل مكونات الحوض ، فألقى بالسمك في البحر و سكب الماء في النهر ، و ألقى بالزجاج ليتحطم ، فلم يعد هناك حوض لأسماك الزينة الذي يتحدث عنه .
و لذلك فإنه حينما يريد أن يصف لنا جمال حوضه ، فلابد أن يشرح العلاقات متراكبة ، فالسمكة تلعب في الماء محدودة بالزجاج ، و هذا مفتتح التناول "للقصة الشاعرة" . ( فالموروث و المحميات و المصفى و المسودات و المعونات ) ..... كلها متعالقة لغة في الاشتقاق بالمفعولية ، و هناك تعالق إيقاعي بينهم ، إلاّ أن العلاقات المختزلة بينهم ... تمنح للنص انفتاحاً في مساحات الوعي ، بعبارة أخرى إن هذه الكلمات في مكانها لا تستخدم كمفردة موحية ، بل إن اللفظ يمتلك إشعاعات أربعة داخلة لا تحدد مضمونه ، بقدر إبرازها لما حذف منه ، و يطل من التركيب ، و سوف أُقدّم المثال بشكل بتْر عضوي للتشريح ، فالموروث يقتضي الشيئية و المعنوية و الموروث و الوارث ، أما كيفية تناول الموروث ، فهذا ما لا يقتضيه النص في الشعر ، و ربما يقتضيه في القصة ، فحينما يقول "مبدع القصة الشاعرة" :- (كانت قد صفّت موروثاً عن آخر محميات الورق السالف) ... فقد صور و نغّم الحدث و المفردة بشكل شخصي .. ، و قد كنتُ قد قرأتُ بعض الدارسين يبرز الأثر النفسي "للقصة الشاعرة" ، ... متخذاً التمثيل بقراءتها على المرضى ، بأنها تبلغ إلى شفاء ناجع في أحوال جمة أو حالات معينة .
و هذا سوف يحول الناقد إلى دارس في علم النفس ، أو طبيب نفسى حيث ستصبح "القصة الشاعرة" عبارة عن جرعة يجب ألاّ تزيد أو تنقص ، و فى هذه الحالة يخرج النص المنتج من أدبيته ... ليصبح عقاراً صيدلانيا ،.... فقد وجه الأوربيون الدراسات الأدبية في القرن التاسع عشر و العشرين إلى تناول الأدب من خلال العلوم الأخرى الخارجة عنه ، فأنتجوا نصوصاً مريضة في النقد الأدبي و بخاصة في مجتمعنا العربي ، و أصبح التفسير النفسي للأدب – على حد تناول عزالدين إسماعيل- تطبيق النظريات النفسية على المنتج الأدبي ، مما أوقع نجيب محفوظ في حفرة أخرجته من أدبية الحكي _ في روايته الشهيرة ( السراب ) _ إلى علم النفس الحكي ، و قد سبقه إلى الوقوع في نفس الحفرة عباس العقاد _ الناقد لا الشارع _ حينما تناول شعر أبي نواس من منظور نفسي ،.... و كثيرون لازالوا حتى الآن ، حتى ضاقت أدبيات النص ، و اتسعت حفرة التناول النفسي ، كما هو الأمر عند مصري حنورة ، و شاكر عبدالحميد ، و غيرهما ، و إن كان حنورة و شاكر أكثر المجتهدين في توسيع حفرة التحليل النفسي للأدب
و لم يكن المتلقى للنص الأدبي من المنظور الاجتماعي أو المنظور الحضاري بأقل من أولئك في تحليلهم النفسي ، ...... و الغريب أن الأوربيين حينما ساروا بهذه المناهج عادوا و تركوها بعد عقود قليلة ، ليتناولوا النص في ذاته كمنظومة خاصة لها كيانها الخاص اجتماعيا و نفسيا ، فظهرت المذاهب البنيوية الشكلية و التوليدية و التواصلية ، و التلقي ، و نظريات القراءة و السرديات و غيرها من النظريات .. و لا توجد لحظة تخلو عندي من العجب ، حينما نرى أن عبد القاهر الجرجاني -و هو في نظري شيخ نقاد العالم و إمامهم- لا يخرج عن المنتج الإبداعي نهائيا ، إلاّ في فهم ما يتوجه إليه المبدع ، فيروي أن الفرزدق حينما قال:-
عينان قال الله كونا فكاننا ... فعولان بالألباب ما يفعل السحر
قال جرير للفرزق : الأولى أن تقول فعولين بالألباب باعتبار الكلمة خبر كان" ، فقال الفرزدق :- لو شئت أن أسبح لسبحت (يعني أنه أراد أن ينسب السحر في العينين لهما ، و ليس للخالق جل في علاه)
فلم يخرج "عبدالقاهر" و "ابن قتيبة" و "ابن طباطبا العلوي" و "ابن سلام الجمحي" "وابن جني" و "الجاحظ" ، و غيرهم مِمن تناولوا النص الإبداعي العربي – لم يخرج أحدهم عن تناول النص في ذاته ، و لم يربط أحدهم النص بما هو خارج أدبه ... فالنص يرتبط بذاته أو بمثله تناصاً أو محاورة . وكان أكثر الذين انتبهوا لذلك _ والحمد لله _ الترابط النصى هم المفسرون العظماء للكتاب والسنة..فلم يخرج أحدهم الكلمة عن مدلولها داخل النص المجيد الذى لايأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. فقدموا النموذج الأمثل فى كيفية تناول النص... ولله المثل الأعلى. وليس هناك من مسوغ للمقارنة بقدر ما هو ابراز للفهم العربى القديم للنص القدسى... أو النص الادبى.
فعند تناول نص القصة الشاعرة الأولى ألا أخرج من أدبية النص المنتج ، فلا يحتاج النص إلى تفسير خارجي إلاّ مع التناص أو التماثل ، أو وجود تعالقات نصية بينه و بين نصوص أخرى ... ، فالمتوالية الإيقاعية و الحدثية في "القصة الشاعرة" تملي البحث فيها كنص كلي لا يقبل و لا يساوي مجموع الأجزاء ..
فالنص المنتج "القصة الشاعرة" = النص المقروء "القصة الشاعرة" ..
و القصة الشاعرة =/= اللغة + الحدث + الصور + الإيقاع .
حيث إن هذه العناصر قد توجد في اللوحة التعبيرية ، أو المشهد الدرامي ، أو الصورة السينمائية ، ولذا فإن هذا تحقيق ما قدّمْتُ به التعريف للقصة الشاعرة بأنها "القصة الشاعرة"
ثالثاً : الجملة الشعرية شخصية جديدة في القصة الشاعرة : -
حيما تناولت الكلمة في القصة الشاعرة جاء التوصيف لها بأنها من البتر لعضو بهدف التشريح ، وكان من الضروري أن تتمظهر الكلمة برصفها اختزالية أو اندماجية ، أو كلمة مزجية في البناء النصي ، و أشرتُ إلى أن التعويل على تحليل المفردة سوف يجعلنا نكسر الزجاج و نسكب الماء في النهر ، و نلقي بالسمك في البحر ، لتحليل النص و هذا ما جعلني أرى أن الجملة الشعرية هي الشخصية في القصة الشاعرة ، فإذا كانت الكلمة هي البنية الصغرى في النص ، فإن الجملة الشعرية ستصبح الشخصية المحورية في "القصة الشاعرة" ، و لا يمكن تحليل الجملة باعتبارها مبنى نحوياًّ أو صرفياًّ ، أو دلالياًّ ، بل سيأتي تحليل الجملة باعتبارها نسقاً داخل مجموعة من الأنساق ، و جميع هذه الأنساق هي مسمارٌ يشنق عليه البطل ، و لذلك فإن تموضع الجملة الشعرية في النص لن يكفيها تواصل الخيوط بينها و بين سابقتها و لاحقتها في نوع من الحبك ، بل لابد من وجود خيوط خفية أو ظاهرة بينها و بين جميع الشخصيات الأخرى في النص ، فالجملة هي اللبنة الكبرى التي لا يمكن تفتيتها لاستبيان عناصرها في "القصة الشاعرة" بشكلٍ خاص ، حيثُ إن محمولاتها سوف تتعدد لغويا و شكلياً ، و ارتفاعات الجملة و انخفاضاتها سوف تجعل النص يحمل إيقاعات موجية إلى جانب تحمُّله لإيقاعات الصورة و التفعيلة ، فلن يصبح اسم الشخصية في "القصة الشاعرة" محوراً للدرس الأدبي ، و كذا الحدث أو الصورة ، بل إن ذلك كله سوف يتحول إلى متوالية من الجمل ، و سوف نتناول التطبيقات لمخترع هذا الجنس الأدبي محمد الشحات محمد و كذا بعض الشعراء الذين اتبعوه ، فكانوا قريبين من المنتج المخترع بدرجات ما ، أمثال د. خالد البوهي ، د. بيومي الشيمي ، أحمد السرساوي ، إلياس بن سالم الجزائري ، ريمة الخاني السورية ، و ربيحة عبدالوهاب الرفاعي الفلسطينية ، و جميلة الرجوي اليمنية و غيرهم .
و سوف تتضح ملامح هذا التطبيق عند تناول النصوص .
· ميلاد جنسٍ عملاق هو "القصة الشاعرة" ، و معها نظريتها النقدية .
· ميلاد ثورة عملاقة "ثورة 25 يناير 2011" ، و معها آمالها المشروعة .
· ليس غريباً أن تكون الولادة طبيعية ، و بدون حمل ، فمصرُ لم يسبقها أحدٌ في إنتاج العجائب .
........ منقول .........