تينةٌ
في آخر الدرب الذي
تُنهي عيون المرء فيه السعيَ
أو تخلع بَعد المشي فردات الحذاءْ
تينةٌ
قد نسجتْ أكفانها من نصف قرنٍ
نشرتْها فوق أغصانٍ لها مثل هموم الشعراءْ
وتمنّتْ..
مرَّ عام ٌ..
ثم عشرون..
وخمسونَ تماما
بليَ الكفن على أغصانها السودِ
ولا زالت تغني:
" أيها الموت متى يأتي اللقاءْ "
حطّت الطيرُ عليها..
سألتْها :
" خالتي البرد شديدٌ..
هذه الأثوابُ ما عادتْ تقيكِ البردَ
في هذا الشتاءْ "
أطرقتْ للأرض في صمتٍ رهيبٍ..
فبكتْ بعض الطيورِ..
(الطير مثل الناسِ منها أخضر القلبِ
ومنها حامل الهمِّ وجرّارُ الشقاءْ)
حنّ فيها القلبُ شيئا ..
(شجرُ التين له قلبٌ كبعض الناسِ
ينسيه المراراتِ )..
فغنّتْ .. :
" يا بقايا الكفْن في الغصنِ إلى منْ
تشتكي الأشجار إن شاب اللحاءْ ؟
يا بقايا الكفنِ يكفيني من الألواحِ
ما قد صوّر الفنان قُربي
ومن الأوحالِ أقدامُ حفاةٍ
ومن العشّاقِ قيسٌ ليس إلا
ومن الأحلام ما تحكيه في ظلي النساءْ
يا بقايا الكفنْ آهٍ.."..
لم تقل عصفورةٌ تبكي..
ومالتْ..
مسّحت ما سال من كُحل ببعض الكفنِ :
" أيا خالهْ ...
رجاءً..
علّميني ما يقول المرء يشكو مخلب الصقرِ
إلى عدل السماءْ "..
وأرتْها بعضَ جرحٍ في جناحٍ
وبقايا يبستْ ثمة من نزف الدماءْ
علّمتها .. :
" نظرةٌ واحدة بالدمعِ تكفي
ارفعيها ..
واحذري أنْ تفتحي المنقارَ
فالقولُ هنا مثل ثقوبٍ غائرات في إناءْ
تفسد الأمرَ كثيرا..
تفرِغُ الصرةَ من زادِ المنيبين إلى اللهِ
وتُنئي عن دروب الأنبياءْ "..
فهمتْ منها .. فهزّت نخلَ عينيها إلى اللهِ
ولكنْ..
نسيتْ بعض تفاصيل دعاء الصمتِ
أودى بالهوى المنقارُ يهتزُّ ويحكي
في حرارات الدعاءْ :
" يا إله الجوِّ
قد كنتُ .. و ألقيتُ إلى الخلف انتباهي
فإذا الصقرُ..
وهذا الجرح من ذاكَ..
أنا الآن .. "..
وساد الصمتُ في ذاك المساءْ
وقعت للأرضِ مثل الصخرِ من طيرٍ أبابيلٍ
وماتتْ ..
هكذا قال الرواة العشرُ
من دون اختلافٍ
موتة العصفور كالإنس وكالجنِّ قضاءْ
راقبتها الريح في حزنٍ عميقٍ
مثل بئر البدو في الرملِ عميقٍ
وضعتْ كفًّا
تسدُّ الفمَ كي يبقى اندهاش المرء في العينينِ
والتينة قالتْ :
" سوف أهديها ثيابا للقاء اللهِ في هذا العراءْ "
وتمنّت "تينة الأكفان" لو كان لها هذا اللقاءْ
حسدَتها
علّمتْها كيف تدعو في سكوتٍ..
لكنِ الأخرى هنا في الموت أيضا علّمتها
موتةَ الصمتِ بلا أيِّ حروفٍ للهجاءْ
في مراسيم الوداعْ
هزّت التينة من باقي ثياب الكفن في الأغصانِ منديلا
تنادي:
" اسبقينا ..واذكرينا.."..
ثم مدت بعض منديل بغصنٍ
وأزاحتْ عن مآقي الجذع فيها بعض ماءْ
كانت الأخرى على الأكتاف تمضي ..
لوّح الجرحُ لظفْر الصقرِ يبكي
بينما التينة ترمي حلمَ عينيها إلى أبعد شيءٍ
حيث أشجار الفناءْ .
دمشق الثلاثاء 30 نوفمبر 2010م