حدَّثني فقال,,
صعقةٌ كهربائيَّةٌ زلزلتْ كلَّ بدنِي,,استيقظت !!
يا إلهي,, هل غفوت ؟؟؟سألت نفسي
لا,, لا,, لا يمكِنْ ,,ربَّما غاصَ قلبي, أو سهتْ عيني ,,وربَّما غِبْتُ عن وعيي نعم ,,لكِّنني لم أنم .
ما زلتُ جالساً على مقعدي ,منحنياً تماماً, قابضاً على رأسي بكلتا يديّ, ضاغطاً عليهِ بقوَّة, واضعاً إيَّاه بين ركبتيّ.
لكنْ ,,لماذا أضغطُ بهذة القوةِ على هذا الرَّأس ؟؟هلْ منَ الممْكنِ أن يكونَ رأسي غيرُ قادرٍ على تحمِّلِ أفكاري الثَّقيلةِ لوحدِة ؟هل أخافُ عليهِ منَ الإنفلاتِ مني والإندفاعِ خارجاً مع تيارِ هواءٍ من أحدِ ثقوبِ التهويةِ في الطائرة؟ ,الحقيقةُ لا أعلم ,وكلّ ما أعرفهُ هو أنَّني في حالةِ تعبٍ شديد ,, ,وإنَّني أكادُ أفلقُ رأسي نصفين .
هديرُ الطائرةِ المتواصل يؤثِّر على معدتي فيشعرُني بالغثيان.
كم أشتاقُ الآنَ لحضنِ أمِّي,,, عندما يشعرُ أحدُنا بالضَّعفِ والجفافِ الشديد يشتاقُ لحضنِ أمِّه ,لتمنحَه بعضَ الحنان ,وبعضَ الأمان .
مسكينةٌ أمِّي,, ما زالتْ دموعُها على ثيابي رطبة .
كم ذرفتِ من دموعٍ عند وداعي يا حجَّة ؟؟
وكنتُ أكفْكِفَ دموعَكِ المدرارَة التي لم أرَها تتدفَّق بهذا السخاءِ من قبلْ, وأواسيكِ ,ولكننَّي لم اذرفْ دمعةً واحدة , فأنا رجل!,, والرِّجالُ لا يبكون, هكذا فهمتُ منكِ على مدى سنيني الأربعِ والعشرين . تعالي وانظري الرُّجولةَ الآن,,! أحسُّ أنَّ قلبي يذرفُ دماً .كلُّ هذا الغموضِ الذي يلفُّني وكلُّ هذا الخوف,, ماذا سأفعلُ به ؟.
هل كانَ لازماً أن تنجبِي كلَّ هذا العدد ؟,,سامحكِ اللهُ يا أمِّي,, سامحكِ الله.
رأسي يضُجُّ فيه آلافٌ من النَّحلِ الطنَّان ,,لا أستطيعُ إفلاتَه من يديّ, أحسُّ بالرَّاحة وأنا أكبسه بينَ كفيَّ بقوَّة .
يا إلهي,,, هل سيُعيدونَني على نفسِ الطائرَة كما أعادوا الكثيرين ؟؟
آه ,,يا لضياعِ إسوارَك العزيز يا أمِّي, كم احتفظتِ بهِ رغمَ عاديات الزمن كلّها ,,!ثمّ ضحَّيتِ به من أجلِ سفري!! يا لعارِي وعارَك أمامَ أخوالي الذينَ استدنتِ منهُم كلَّ ما يملكون لشراءِ بطاقةِ الطائرة!!
ساعدني يا رب,, أرجوكَ كنْ معي, رفيق غربتي ,لا تكلني إلى نفسي طرفةَ عين.
كارثةٌ لو عدْتُ بخُفَيِّ حُنَينْ,, مصيبةٌ حقيقية, كم سنةً من العملِ المتواصلِ يلزمُني لأسدَّدَ ديوني؟؟ وكم ؟ وكم ؟.
مرَّرتُ نظرةً من كوةِ الطائرة ,,كلُّ شيءٍ رماديٌّ داكنٌ مثلَ قلبي .
ماذا سأقولُ لهم عندما يسألونَني,,, لماذا أنتَ هنا عندنا يا إنسان ؟؟؟يا عربي ؟؟؟
هل سأقولُ أنَّ بلادي الحبيبة أصبحَت غولةً مخيفة تأكلُ أبناءَها ,أو تمضغُهم بأضراسِها المتسوِّسةِ السوداء ,ثمَّ تلفظهم في وجهِ العالم ,,شمالاً, جنوباً ,براً ,بحراً,, لا يهمُّها !!.
هل أقولُ أنَّني جئتُ أبحثُ عن لقمةِ عيشٍ عندَكم, ولقمةٍ أخرى لعائلتي الكبيرَة ؟؟
هل أقولُ من مالِ اللهِ يا,,,, محسنين !
من مالِ نفط حجازِنا يا,,,, أوروبيين !
هل أقولُ من بترولِ ليبيا والكويت والعراق يا,, غربيين !
من مياه طبريا ,وبيَّاراتِ يافا, وحقولِ بلادي الشَّاسعة, وكرومِ التينِ, والزيتونِ, والرُّمانِ يا عالمين !
كم أحسُّ بالعار !!!
كم أحسُّ بالعار!!
فأنا الشريفُ ابن الشرفاء ,كريم ُالمحتدِ غنيُّ البلد ,,سأفعلُ هذا اليوم!.
ثم كيفَ سأقولُ أصلاً,,؟ بأيةِ لغةٍ سأقول؟.
أنا لا أتقنُ أيةَ لغةٍ أجنبيَّة
سامحكَ الله يا والدي ورحمَك,, أخرجتَني من مدرستِي في عمرِ التاسعة لأساعدك على الأعباء, فهلْ ساعدتُك ؟اشتغلتُ كثيراً, وتعبتُ أكثر ,وقبضتُ القليل الذي لا يسمنُ ولا يغني من جوع !. ها قد رحلْتْ,, وتركتَ في رقبتي عائلةً هائلةِ العدد ,وكلّ فردٍ فيها ينتظرُ الفرجَ على يديَّ المرتجفتين. كلُّ ما أعرفه من اللُّغةِ الأنكليزيَّة هو كلمة( BOY ) وكلمة ( GIRL) ,جاءنا (بوي) ,,جاءنا (كيرل), وفي كلِّ مرَّةٍ أراكَ تعودُ للبيت, لتحملَ وليدَك على ذراعيك بفرحةِ الدُّنيا, تؤذِّنَ في الأذنِ الصغيرة, وتقبِّله بمرحٍ كبير, ثم تطلقُ عليهِ اسماً لا يناقشك بهِ أحد, وعندما تعيدُُ الوليدَ لأمِّي, تبتسمُُ بوجهك ابتسامةَ النصر, وكأنَّها تسلَّمتْ منكَ براءةَ اختراعِ الذَّرَّة !.
آه,,, رأسي يكادُ ينفجر, وأنا,, أواصلُ الضَّغط َعليهِ بقوةٍ عمياء .
جوازُ السَّفر,, (لا تنسَ تمزيق جواز السَّفر قبلَ هبوطِ الطائره ) هكذا قالوا لي.
أسرعْتُ للحمَّام ,وأقفلتُ البابَ خلفي, حركةٌ عاديَّةٌ لنْ تلفتَ انتباهِ أحد.
بدأتُ بتمزيقِ الجواز قطعةً إثرَ قطعة ,أحسسْتُ بوخزِ ألمٍ فظيعٍ في صدري, كأنَّني أمزِّقُ رئتَيَّ وملامحَ وجهي, ها هو اسمِي, واسمُ عائلتِي, وتاريخُ ميلادي, ومكانُ إقامتي, وصورتي الجميلة, تستقرُّ في سلَّةِ الزِّبالة,,, وبالحمَّام !.
عدتُ لمقعدي مكسورَ الوِجدان ,وبألمٍ فيه طعم الفجيعة.
ها قد أصبحتُ مثلَ حجرٍ أصمٍّ سيسقطُ بعد قليلٍ في بحيرةٍ هادئة ,سيُحدِثُ بعضَ إزعاجٍ ببعضِ دوائرٍ متتالية ثمَّ يستقرُّ بالقاعِ إلى الأبد.
أغمضتُ عيني َّمستسلماً,,
ندى ,,,حبيبتي الجميلة,, أشتاقُ لكِ الآن شوقاً رهيباً,,كم أودُّ أن أختبى في جفنيكِ , ليتك معي, هل سنلتقي تحتَ سقفٍ واحد كما وعدتُك يوماً؟؟ كم سنة علينا الإنتظار ؟؟سندخلُ في العنوسةِ يا صغيرتي أنتِ وأنا,, لو وفَّينا بوعدنا, سنتزوج في الأربعين ربَّما.
تصاعدَ صوتُ خربشةٍ قويَّة,, فانتابني خوفٌ غامض, وهبطَ قلبي للقاعِ, ثم تبعها صوتٌ هادىء من مكبِّر الصَّوت, يقولُ أشياءً لا أفهمُها, ظننتُ أنَّ عطلاً ما قد حدثَ بالطائرة ,وهذا يعني ما يعني!!!. رغمَ خوفي الكبير أحسسْت ببعضِ الرِّضا والرَّاحة!, فأنا أحتاجُ لمعجزةٍ ما, تضعُ حداً لهذا القلقِ الذي يفلحُ صدري ,ويحرقُ أعصابي.
حركةٌ ما تجري,, انتشرَتْ المضيفات يغلقنَ الخزائنَ فوقَ الرؤوس, ويقمنَ ببعضِ الأعمالِ الأخرى, وقفتُ لأنظرَ بالأمر, فرأيتُ التثاؤبَ والنُّعاسَ على الوجوه, والرُّكابُ يربطونَ أحزمةَ الأمان, أدركتُ أن الطائرةَ بصددِ الهبوط, وهي تقتربُ من مطارِ (ستوكهولم),, ألقيتُ نظرةً من الكوةِ المجاورةِ إلى أسفل, فرأيتُ الصفحةَ البيضاء,( لا ترى إلا صفحتين, بيضاء في الشتاء, وأخرى خضراء في الصيف) هكذا قالوا لي ,,.
بدأتْ الطائرةُ تهبطُ بتأدُهٍ وثقة ,ووجيبُ قلبي يتصاعد حتى يصبحُ مثلَ طبولِ الغجر .
أنا الآن ,,رقمٌ إسفنجيّ ستتلاعب به الأرياح كما شاءتْ,, أنا ,,لا شيء ,,لا شيء !.
أنا ,,أتابعُ خطى ركَّابِ الطائرة في مطارٍ طويلٍ عريض لا تربطُني به أيةُ علاقة , ولا أعرفُ أوَّلَه من آخرَه, ولا غَرْبَهُ من شرقِه . كم أودُّ لو أصرُخُ بأعلى صوتي كي أستطيع التعبير عن نفسي الرَّافضة, وجسمي المغْلولِ بألفِ قيد. وصرختُ فعلاً عندما نطقتُ كلمة (بوليس) ,وكان ذلك في النُّقطةِ التي طلبوا بها جواز السفر!.
جاءَ رجُلان من (البوليس) بعد فترةٍ لا أعلمُ كم طالتْ . أخذوني في سيارةٍ مغلقةٍ إلى مكانٍ لم أعرفْ إن كان سجناً أم فندقاً . وضعوني في غرفةٍ صغيرة .
الحمدُ لله,,, بدايةٌ جيدة,, والغرفةُ دافئة , سأقولُ أنَّني مطلوبٌ للقتلِ في بلادي ,,هذا أكرمُ لي ,,همستُ لنفسي
دخلَ رجلُ (بوليس) حاملاً صينيةً عليها شاي وقهوة وبعض الخبز المحمص وجبنة ,وتكلم معي كثيراً, وفهمتُ أنَّه يريدُ مني أن أشربَ الشاي وآكلَ الطعام, ورافقني ليريني الحمَّام ولوازمَ أخرى.
بعد نصفِ ساعة ,جاء ثانيةً, وحملَ الصينيَّةَ بيد, وبيدِه الأخرى فتح بابَ الشرفة وأشارَ لي بالخروج .
آه ,,ما أجملَ هذه الشُّرفة وما أعرضَها ,(البوليس) في خدمتي,, هذا هو الأصل الرّاقي والإنساني,,! ما أجملَ هذه البنايات الشاهقة ,وهذة الشوارع المرسومة بعناية ,حقا إن بلاداً نظيفةٌ مرتَّبةٌ مثل هذة تستحقُّ المجازفة .
ولكنَّ البردُ قارس,, أين منِّي هذة المعاطف والأوشحة الثقيلة التي يرتديها المارَّة, معطفي يبدو فقيراً خفيفاً,, لا شيء .
النَّاسُ تمُرُّ في الشوارع المقابلة مدثرين مسرعين كالأشباح ,وزعيقُ الغربان يملأُ المكان ,والثلوجُ متراكمةٌ على الأرض, متناثرةً من فوق ,مثل دقيقٍ متجمِّدٍ ناشف ,والزمهريرُ يخترقُ منِّي النخاع .
لماذا طُلبَوا منِّي الخروج يا ترى ؟؟
سأصبر ,,لا بدَّ لي أنْ أصبر!.
بدأت الدقائقُ تمُرُّ ثقيلةً موحشة قاسية, البردُ القارس يكاد يجمِّدُني, سأتحولُ بعد قليلٍ لتمثالٍ من جليد ,هههه,, (رجلُ الثَّلجِ ذو الأنفِ الأحمر والعينان المحملقتان), بدأت يدايَ تتحوَّلان لقطعٍ زرقاء ,تتخلَّلهما نقاطٌ دمويَّة, الزمهريرُ قاسٍ لا يحتَمل,, لا يحتمل,, سأصبرْ قلتُ لنفسي , سأقومُ ببعض التَّمارين والحركات علَّها تمنحني بعض الدفء, ألبرد لا يطاق ,,كلِّي يرتجفُ ارتجافاً مخيفاً,, هل يعاقبونني ؟؟هل حكموا عليَّ بالموت برداً,؟؟ أبدو مثل عجلٍ مصابٍ بجنون البقر!!.
لا,, لا,, الموتُ يأساً أرحمُ بكثير, لم أعدْ أحتمل ,سأموتُ لو بقيتُ لحظةً أخرى,, روحي نفسها تتجمَّد .
ما زالَ بابُ الشرفةِ مفتوحاً, دخلتُ غاضباً صارخاً مثل ذئبٍ جريح,
أعيدوني,, أعيدوني,,
دخلوا مسرعينَ مستفسرين ,وفي هذة اللحظة بالذَّات, دخلَ المترجم, وبدأ يتكلَّم معي ومعهم .
~~~ماذا دهاك ؟؟؟سألني. ولماذا ترتجفُ هكذا؟
~~~أريدُ العودةَ فوراً ,لا أريدُ الموتَ هنا صامتاً متجمِّداً مثلَ غرابٍ مكسورَ الجناحين !.
~~~ومن قالَ لك أن تموتَ بهذة الطريقة ؟؟
~~~هذا الرجل,, طلبَ منِّي الخروجَ للشُّرفة ,لا أستطيعُ البقاءَ هناك ,,أرجوك .
~~~طلبَ منكَ أن تدخِّن في الشرفة فقط,,,,,, يا عزيزي,, !!!
ماسة