وداعا
نعم، بإمكاني أن أتجاهل غيابك.. سأشغل نفسي بمساعدة الرجال في وضع الحقائب كل في مقطورته، سأنزل الى الرصيف للمرة العاشرة دون اهتمام بزعيق القطار، دون اهتمام بنفث أبخرة الضغط.. دون اكتراث بتسارعه. رجل مكابر في مثل هذه اللحظة لا يستحق الحياة. أعود إلى مقصورتي و أتفادى النظر من النافذة.. حتما من لم يلوح لك ويبكك على الرصيف لا يمكنه أن يتعلق بنظره إلى نافذة ليست سوى نافذة بين عشرات النوافذ رغبة في نظرة أخيرة. لا مشكلة لدي، سأنظر نظرة أخيرة الى حيث العشرات من المشيعات لرجالهن و أخوانهن و عشاقهن، فبل ان ينطلق القطار بسرعة..أنظر إلى حيث تبكي فتاة غضة أباها الذي ناداه نداء قاهر من الوطن، حيث تقف عجوز وهي تكفكف دمعا يعز سيلانه على خدها، هناك على الرصيف حيث تشق الشقراء جنبها إيذانا بالفقدان المؤجل..، تماما على الرصيف الذي لا أستطيع أن ألتفت إليه للمرة الاخيرة.. علِي أراك تهرولين بعد أن كنت على موعد مع الغرور و الغياب.. ما كان لك أن تعديني بشيء أنا الذي لم أنتظر أحدا قبلا سواك، أن تستعبديني بانتظار وانا المشرف على شفا حرب من أجل الانعتاق.. و كوقفة أخيرة لن ألتفت الى الرصيف حيث من المحتمل انك تتعثرين بفستانك .. حيث ترمين بذات الكعب العالي ، فردة الى اليمين و أخرى الى الامام.. حيث تشيرين الى هدير الحتمية بأن يتوقف. لن ألتفت أبدا.
ما أروعك يا قدر، بذات المحطة نقع دوما على ذاكرة أليمة، ماهي الا بداية قدر و أمنية.. كرماُ مني سأخرج يدي من النافذة وألوح بها حينا من الوقت.سأراهن على حدسك مقامرتي بك بأنك ستعرفين أني هنا. كرماُ مني سأرمي اليك بحبي عبقا في منديل ينازعك الصفاء. كرما مني سأتغاضى عن ضجيج القطار.. نواح المودعين، وأنين الكهل الذي يقاسمني المقطورة، سأتغاضى عن ذلك كله و اسمع نداءك . مبحوحةَ الصوت سمعتك، نادمة سمعتك، و عنيدا لن ألتفت إليكِ. فكوني في الموعد في ذاكرتي ، حين يؤُز الرصاص و تنفجر الالغام،سأنتظرك. أحادثك بين الطلقة و الاخر. وتقبضين على يدي حين ينزف بك جرحي، حينها سأعتبرك تجلين الوداع.. في مكان بعيد من هنا، في خندق ما على حدود هذا الوطن.