عبد الله طفل يتيم في الثالثة من عمره يلهو مع الصغار في أزقة القرية الصغيرة النائية بعد وفاة والده العام المنصرم وكلما أصابه التعب هرع إلى أمه ورمى نفسه في حضنها ليرتاح فتحضنه حتى يأخذه سبات عميق ثم تضعه على سريره ، وتذهب لشؤون بيتها .
وفي يوم من الأيام وكعادته جاء ليرتمي بين يديها ، ولكنه وجدها بين يدي النساء يزينّها ويضعن الزهور والرياحين على شعرها ويلبسنها ملابس بيضاء جديدة وهي ترسل دموعها الحرى كأنها في مأتم ، اقترب منها لكن أولئك النسوة أخذنه بعيداً عنها ، فلم يستوعب ما يجري وبدأ يبكي ويحاول الوصول إليها وبعضهن تحاول الهاءه عن أمه ببعض الملهيات ، لكنه استعصى عليهن حتى وصل الى أمه ، تفرس في ملامحها وكأنه يسألها عن سبب بكائها وهي لا تحير جواباً ولا تستطيع النطق بكلمة لما يشتعل في صدرها من ألم وحسرة على نفسها وولدها الصغير .
صوت يرعد ويزبد في الخارج ، يستعجلها لكي تسرع ولا تتأخر ، إنه أخوها الأكبر وبجواره عجوز هرم قد منحه مائة الف ريال قيمة صفقة ظالمة ليقترن بأخته شريطة أن تتخلى عن " عبد الله " الصغير
نام عبد الله كالعادة في حضن أمه ثم وضعته على سريره وكأنها تنزع قلبها من أحشائها بسفود ، ثم خرجت إلى أخيها خوفاً من أن يقتلها أو يؤذي صغيرها .
صعدت السيارة إلى جوار الرجل العجوز لياخذها إلى عالمه المجهول ودياره البعيدة زوجة في هيئة خادمة ترعى الغنم في صحراء قاحلة وتنسى عمرها وحياتها وابنها وأهلها وكل ذكرى تربطها بقريتها ورفيقاتها .
ذهبت وقلبها يتمزق ودمعها لا يجف وحزنها لا يتوقف كلما تخيلت للحظة ماذا سيصنع " عبد الله " الصغير حين يستيقظ ولا يجدها .
بكى عبد الله طويلاً حين استيقظ بعد بحث طويل لا نتيجة له وبعد أسئلة حائرة لا جواب لها ، وظل يبكي أياماً حتى دق عظمه ونحل جسده وغارت محاجره حزناً لفقد أمه ، وجاع كثيراً وهو يتسكع في الممرات لا يأبه له أحد وعاش يتيماً لا يهتم به أحد غير امرأة مسنة ضعيفة تحاول اللحاق به ولا تدركه حتى ينام فتسقيه قطرات من حليب عنزٍ لها أو تضع فتات خبر في فمه الصغير لعله يصل إلى معدته .
اختصرت الدنيا بشاعتها بين عبد الله وأمه في مسافة طويلة من الأرض بينهما .
كبر عبد الله سنة بعد سنة حتى أصبح يافعاً ، وحينها عرف كل ما حدث ، فحقد على خاله حقداً عظيماً وعزم على السفر إلى أمه ليلقاها وطلب من بعض الجيران مساعدته ببعض المال ، ثم خرج مسافراً تحدوه الآمال للقاء أمه الرؤوم .
أما الأم فقد كواها الجوى والحزن حتى تدهورت صحتها ومرضت مرضاً شديداً فارقت الحياة على اثره منذ سنوات .
ذهب عبد الله مسافراً ومتنقلاً من سيارة إلى أخرى ، وقبل أن يصل بساعات كان على موعد مع القدر ، حيث تعرضت السيارة التي استقلها لحادث فاضت فيه روحه قبل أن يصل إلى ديار أمه .
عاشت هذه القصة في أذهان أهل القرية عشرات السنين يبكون كلما تذكروها وتذكروا حجم الظلم الذي أصاب عبد الله اليتيم وأمه .


بقلم / علي معشي