- 1 -
كان راشد متقرفصاً في معمله العتيق، تلك الغرفة المهملة من ركن حديقة ذلك المنزل المتوسط، يحك شعره الأجعد وهو يتأمل الهامش العريض الذي يشكل حياته.
من جبينه الذي طُبعت عليه بصمات الزمن تتفصد حبات العرق، حينما دخلت زوجته السليطة تصرخ به وفي يدها العشاء : خذ .. عشاءك ولا تزعجني .. أريد أن أنام.
استدركها بلهجة متوسلة : أين الليمون ؟
فأجابته بمنتهى الغلضة وهي منصرفة عنه : أوف .. سآتيك به الآن .. هل تريد شيئاً آخر حتى لا ترددني ؟
لم يعبأ بسؤالها - فيما كان يفكر - حيث انقدحت في ذهنه فكرة مباغتة انطلق على أثرها إلى اللوح المجاور وأخذ يكتب ويمسح بالطباشير معادلة جديدة لذلك الابتكار الذي أفنى حياته في سبيله، توقف قليلاً عن المحو والكتابة وابتعد عن اللوح بينما لا يزال مسلطاً نظره إليه بعينيه الخاثرتين ..تلمسَ المقعدَ خلفه .. وجلس.
عادت زوجته بالليمون فتناوله منها بلهفة، وأخذ يلتهم شرائحه - أرباعاً - في شراهة ويقتلعُ اللبَ بأسنانه المتكلسة التي لم يتبقى منها سوى نابانِ وسنانِ معوجان ويمضغها ببعض أنقاض ضرسين متعامدين في الجانب الأيسر لفكيه، كان يأكل الليمونَ بنهم ويعصره في فمه ويجتثه من قشره ويمضغه ويبتلعه ثم يعصر منه الكثير على طعامه قبل أن ينهمك في تناوله.
أفنى هذا الشيخ المسن ثلاثة أرباع حياته داخل هذه الصومعة الضيقة معتزلاً كل ألوان السعادة وأشكال الحياة الطبيعية، وكانت زوجته التي تزوجها عن كبر لا تحبه بل لا ترحمه، لديها ولد وبنت من زوج قبله، هما الآخران يتعاملان معه بمنتهى القسوة والغلظة، وبالمثل هو يبادلهم هذه المشاعر ويؤثِرُ عدم الاحتكاك بهم في الغالب.
كان يتجول في الغرفة ويفكر ويعود إلى اللوح ويقلب في الكتب ويضيف من المحاليل ويرصد النتائج قبل أن يجلس على كرسيه الخشبي مستغرقاً في تفكيره وكانت شفتاه تتحركان فيما يبدو أنها عمليات حسابية وفي آخر تلفظاته البطيئة كان يمد الأحرف بصوته الخافت إلى أن انبجست شفتاه عن ابتسامة عريضة حينما ضرب قلم الرصاص على الطاولة وانطلق إلى اللوح مرة أخرى ليمسح السطر الأخير وما سبقه ويعيد الكتابة حتى نهاية اللوح وهو يضحك في حبور ثم رمى بالطباشيرة على اللوح بقوة وشد قبضتيه حتى تجلت تفاصيل العروق في ساعديه وعنقه ورفع يديه عالياً وهو يصرخ : نعم .. نعم .. لقد وجدتها توصلتُ إليها أخيراً..
تناول الجهاز من أعلى الرف بصعوبة وأخذ المحلول وبدأ في تركيب المادة بكمية وافرة، كان جهازاً غريباً، عبارة عن مقبضين متصلين باسطوانة (ستانلس ستيل) تعلوها مؤشرات حمراء وزرقاء وعند إضافة كمية قليلة من المحلول داخل هذا الجهاز يعمل عند تشغيله على ما يشبه التفوير أو الإرغاء ويصدر صوتاً غريباً يشبه الأزيز.
جمع الجهاز والمحلول – الذي عبأه في قنينة كبيرة – داخل حافظة خاصة، علقها على كتفه وانطلق إلى الباب، هناك توقف قليلاً يفكر في أمر ما، قبلَ أن يتراجع ويغلق الباب "لماذا يجب أن يعلم الناس بما توصلت إليه ؟ ما الذي قدمه لي الناس حتى يستحقوا مني شيئاً ؟ لو علم أحدٌ بهذا الاختراع فستكون لي شهرة كبيرة وسأصبح من أثرياء العالم، لكنه في النهاية سيكون اختراعاً محرما".
كان اختراعه هذا يعمل على نقل الروح من جسد إلى جسد، تلك الروح التي أهدر في سبيل فك رموزها كثيرٌ من العلماء أعمارهم دون جدوى، والاختراع الذي توصل إليه راشد - هذا الشيخ المسن - يمكّنه من نقل الروح بطريقة غريبة فـ أحد المقبضين في الجهاز يعملُ على الإرسال ويعملُ المقبضُ الآخر على الاستقبال وحين يضاف المحلول إلى الجهاز ويحقن الطرفان بمادة معينة فإن الروح تنتقل من جسد المرسل إلى جسد المستقبل خلال أقل من عشر ثوانٍ، ويموت الجسد المنقولة منه الروح بينما تموت الروح الأخرى ويبقى الجسد المطرودة منه.
أخفى الحافظة في مكانٍ آمن وخرج من الغرفة – المعمل – إلى الشارع بأسارير منفرجة وروح مفعمة بالحيوية والنشاط، لأول مرة ينظر إلى الحياة بكل هذا التفاؤل، منذ أمدٍ طويل لم يخامر هذا الفرح والأمل قلبه، كان يتأمل وجوه المارة بتفحصٍ غريب "الآن يمكنني الانتقاء كيفما أشاء، هل أستولِ على حياةِ فؤاد ذلك الثري الذي يملك قصراً فخماً في نهاية هذا الشارع؟ إنه يملك مالاً كثيراً وسلطة لا حدود لها ويتمتع باحترام الجميع ومجاملتهم.. أم حياة وليد ذلك الشاب مفتول العضلات الذي أراه في الصباح الباكر كل يوم ببدلته الرياضية يمارس الهرولة ؟ أيٌ من هذين الشخصين اللامعين اللذين يروقان لـ فاتن تلك الفتاة بارعة الجمال التي شغلتْ جميع أهل الحي بدلالها وتغنجها ؟" ..
وقع اختياره على فؤاد كـ ضحية تستحق أن ينتخبها.
- يتبع -