ليس هناك أسوأ من حزن يمطر الروح بضباب رؤية وسوء إدراك، تمنيت دائما أن أملك ما يكفي لإطعام كل الجياع، علاج كل المرضى، حتى تنبت النضارة في وجوههم من جديد.. كنت أحلم بوظيفة "خادمة" للإنسانية رغم أن معظم من خدمتهم بصقوا، حاربوا وطعنوني لحظة غيابي، أعلم أن الفقر الخارجي يخترق العمق الداخلي ليتحول الإنسان لجارح وكاسر، يجلد قبل أن يشغل لسانه بقطع شقيق الشراب.. يوما ما سأطلق عليه الجحيم شيطان الضحك..

كان زوجها سائق أجرة سكيرا، لا يأتي للبيت إلا بما يهين كان صراخه تسلية الجيران، مسلسل تلفزيوني ينتظرونه كل مساء، ويعرفون نهايته، فمن ترتبط بسائق تاكسي، سيطلب منها النزول في أقرب موقف، لان لا موقف له..
ترجتني وهي تنتحب أن أخلصها من هذا العذاب، وأنا ليس أعظم ما افعله أن يبدو علي التأثر وكأنني لا أسمع، قلت من العدل اقتسام الوجع بالتساوي .. هل تريدينه؟ قالت مناي الطلاق، أن يبتعد ويتركنا، قلت طريق المحكمة يعرفه الجميع، خذي هذا المبلغ وتوكلي على الله..
بعد أسابيع أسمع شائعات تقول أني فرقتها عن زوجها بالقوة لأني أريده لنفسي!! يا إلهي.. إنه الفقر.. مجرد أن أدرت له الظهر ينقض بثقل القهر الذي كان يحمله ويراه جزءا من عقاب مستحق، للفقر عورة كشفها يترك ثأرا يلاحق من فعل حتى آخر ورقة، لكن إطلاق رصاص الغدر لا يمنح القتلة غير راحة مؤقتة يعتقدونها حقيقة، هي جميع اللغات لعبة.. اتقن منها لغة من نوع آخر، وأعرف أن من بين ألف خرف لا يحتمل.. سيظهر بدون النقطة حاء حرف..
كما "منى" التي تخلى عنها زوجها وكل أهلها، كانت وحيدة دائما في دار الرعاية.. تتمدد عن يسارها سيده مشلولة بالكامل، كنت أسلم عليها بيدي وأحضنها، أطعمها، أسقيها .. إلى أن أخبرتني " ليلى" في الغرفة المجاورة أن لديها مرض معدٍ ‏فامتنعت عن الاقتراب، حين لم أسلم عليها في الزيارة قبل الأخيرة لاحظت عيناها وقد اغرورقتا بالدموع، حاولت أن تخفي كي لا أشعر بها، لكن الإحساس رسام ملامحه تراك ولا تراها.. أضحكتها يومها حتى ظهرت أسنانها المهشمة، قلت لها: تمتلكين أجمل ضحكة، فرحت وقالت لكن أسناني كما ترين، قلت لها أسنان روحك جميلة.. أرى أن من حقي أن أفرح بما قالت: "أنت أجمل إنسانه صادفتها في حياتي، لا زوجي ولا أخي ولا ولدي ولا كل أهلي كانوا أحن علي منك يا وفاء" واجهشت بالبكاء..

عندما عدت لزيارتها بعد فتره لم أجدها وعلمت من "ليلى" أنها ماتت ولم يأتِ أي من أقاربها، بقيت جثتها بالثلاجة ثم دفنت بلا بكاء بلا عزاء.
رحلت .. وصدى ضحكتها ما زال عالقا بقلبي..