غيمةُ الروحِ
شعر د. صالح بن حسين العايد
رضيتُ بالهجرِ وهو النارُ في كبدي
إذ صارَ وصلُكِ مَنّاً والفؤادُ صدي
ظَمِئتُ والماءُ قد فاضتْ مناهِلُهُ
لكنْ تحيّرتُ لم أصدُرْ ولم أَرِدِ
يحدونيَ الظِمْءُ إقداماً فتردَعُني
حميَّةُ الأنفِ كالتنورِ في خَلَدِي
فلو هَمَمتُ بضعفٍ ثـَمَّ راوَدَني
يصيحُ بي هاتفٌ : أنْ قفْ ولا تَرِدِ
فالموتُ صَديانَ في عزٍّ ومفخرةٍ
أشهى من الشُربِ ذلاً صافيَ البَرَدِ
يا غيمةَ الروحِ مهما شحَّ هاطلُها
يوماً ستمطرُ تَحناناً على كبدي
فتُنبتُ الأرضُ بَعدَ الجَدبِ في غدِها
ونجتني من ثمارِ الـحُبِّ بَعدَ غدِ
يا غيمةَ الرُوحِ أستسقي هَواطِلَها
أنْ أدركي بي بقايا الرُوحِ في الجسدِ
لقد عهدتُكِ للتحنانِ منبعُهُ
أسخى من النِيلِ فَيّاضاً إلى الأبدِ
وكم وجدتُكِ والأمواجُ تَعصِفُ بي
أحنى من الأمِّ إذ تحنو على الولدِ
يا دوحةً قد زَكَتْ من طِيْبِ ما حَمَلَتْ
ظِلاً ظَليلاً وعيشاً كاملَ الرَغَدِ
لَكَمْ عَجِلتُ اهتبالاً فَوتَ فُرصَتِها
وَعُدتُ كَرْهاً وَخَطْوِي خَطْوُ مُتَّئِدِ
تُسايِرُ الرِجْلُ قلبي وَهْيَ راغِمَةٌ
فلو لها الأمرُ لم تذهبْ ولَم تَـعُـدِ
يا غيمةً في سَماها زانَ مَنظَرُها
وَجَلَّ مَخبَرُها عن نَقدِ مُنتَقِدِ
نَشَدتُكِ اللهَ حُسنَ الظنِّ فاكتسبي
أجراً وفيراً وأدنى من فمٍ لــيَدِ
ولا تظنّي _ وبعضُ الظنِّ مَأثمةٌ _
بي ظِنَّةَ السَوءِ أَنِّي حِدْتُ عن رَشَدي
أتحسبين فؤادي عنكِ منصرفاً
لا والذي أقسَمَ الأيمانَ بالبلدِ
لقد نزلتِ بقلبي منزلاً وَسَطًا
وقد حَلَلتِ مَحَلَّ الرُوحِ من جَسَدي
وشاهدي في الهوى فِكرٌ يُشاغِلُني
عن الرُقادِ وجفنٌ بالدموعِ نَدي
وفي النهارِ شُحُوبٌ ليس تخطئه
عينُ الرقيبِ ولا يخفى على أحدِ
يا غيمةَ الرُوحِ لم أعرفْ سِواكِ هوًى
بكِ اغتنيتُ فَقَرِّي العينَ واتَّـئِدي
أنـتِ العِمادُ لقصرِ الـحُبِّ نرفعُهُ
وهل تقومُ قصورٌ دونما عَمَدِ؟!
إِنْ كانَ للشوقِ عُمْرٌ لا يُجاوِزُهُ
فإنّ شوقيَ باقٍ دُونَما أَمَدِ
لكنّه خلفَ أبوابٍ مُغَلَّقةٍ
مفتاحُ أقفالِها ما زالَ رَهْنَ يدي
إِنْ شئتُ أطلقتُهُ حيناً وأحجزُهُ
جُلَّ الأحايينِ صَبّاراً على الكَبَدِ
يَبريني الشوقُ رغمَ الجُهْدِ أبذِلُهُ
كي أطلبَ الراحَ من سُهدي ومن كَمَدي
أُعَلِّلُ النفسَ بالأسفارِ مُجتهداً
أطـيـرُ مـن بـلـدٍ نــاءٍ إلى بلدِ
لأستريحَ وأنسى ما أكابدُهُ
وراحةُ المرءِ مثلُ النَفثِ في العُقَدِ
وَهْمٌ يُزَيِّنُهُ تخييلُ نافثةٍ
يلتفُّ في جيدِها حبلٌ من الـمَسَدِ
حتى إذا زالَ ما كانت تُخَيِّلُهُ
وأبصَرَ الدربَ بَعدَ البُرءِ ذو الرَمَدِ
أدركتُ أنَّ الهوى والعقلَ في حَرَبٍ
مَسلوبُهُ سالبٌ والنهجُ غيرُ هَدِي
بعضُ الأمانيِّ أزهارٌ بلا ثمرٍ
أو لُجَّةُ البحرِ ما فيها سوى الزَبَدِ
لكنّ أُمنيتي تسمو بما حَمَلتْ
أغلى من المالِ لو يأتي ومن ولدي
وَمَنْ له غايةٌ عُظْمَى أحاطَ بها
بقوّةِ العزمِ والإعدادِ والعُدَدِ
يا غيمةَ الروحِ زادي الصبرُ محتسباً
فالناسُ إن قعدوا أو قامُ في رَصَدِ
إذا رأوا دمعتي طاروا بها فَرَحاً
وإنْ يروا بسمتي ماتوا من الكَمَدِ
لكنّني صابرٌ في وجهِ ما مكروا
ولو طغى مَكرُهُمْ ما فَتَّ في عَضُدي
يا غيمةَ الروحِ عهداً لستُ أخلفُهُ
أبقى على الودِّ مهما طالَ بي أمدي
وأحفظُ الودَّ في صدري أُخَبِّئُهُ
كنزاً أَضِنُّ به ما دُمْتُ ذا جَلَدِ
صداهُ بَوحي الذي ناداكِ في وَلَهٍ
" يا غيمةَ الرُوحِ " سبعاً غايةَ العَدَدِ
نَضَّدتُهُ غيمةً فانهَلَّ وابـِلُها
شِعراً تَدَفَّقَ كـالشَلّالِ مِنْ صُعُدِ
ينسابُ سَحّاً على القِرطاسِ مُنسَكِباً
يَخُطُّهُ قلمٌ في كَفِّ مُرتعِدِ
هذا الصدى نفحةٌ من فَيحِ مَجْمَرَةٍ
يذوبُ من صَلْيِها بالنارِ كالـبَرَدِ
نبضي تهادى على إيقاعِ قافيتي
نَفثاً على البُعْدِ يحكي نَفثَ مُفتَأَدِ
بَوحاً له من بقايا الروحِ أجنحةٌ
خَفّاقَةٌ في سماءِ الـحُبِّ كالـبُنُدِ
يروي عن الرُوحِ أشواقاً مُكَتَّمَةً
فالشِعرُ للقلبِ والتحبيرُ رَسمُ يدي
حسبي من الشِعرِ أنْ ينسلَّ في أدبٍ
كما تسلّلَ صوتُ الطائرِ الغَرِدِ
فأستريحَ وإنْ أرضاكِ ذاكَ إذاً
ما كنتُ أَنشُدُهُ مُذ سالِفِ الأمَدِ


