( 4 )

من قبل أنْ يقرأ عابد عن التبريزي وهو يؤسس لنظريته الرومانسية.. قال عنها لصابرة:
كتاباتي لا تؤسس لنظرية جديدة، فما هي إلا انعكاس لرومانسية قديمة الأزل، لستُ الأول ولن أكون الأهم، لكني حلقة في السلسلة إذا سقطَت انفرط العقد.. وهنا يكمن دوري الوجودي!!

سيحكي لها ذات (شات) حكاية حُب ملهِمة من التُراث سيقول بحذر:

هي حقيقة تاريخية لكني سأرويها لك مُجَهَّلة أسماء الأبطال.. فثقافتنا المعاصرة لم تعد تحتمل الحقائق!

سيأتيه الجواب على شكل الرمز التعبيري الفائت..

سيقول:

كان في سالف العصر ملكٌ شرقي بسط سُلطان عدله ورحمته كما لم يبسطها ملكٌ قبله أو بعده.. هذا الملك العظيم الملهَم، لم يكن مُجرَّد حاكم على شعبه، فكان المربي والمعلم والملهِم والقائد والفارس، وقد تجمَّعت لديه صفات العظمة الفريدة في عصره والعصور التاليه.. وكأين من ملكٍ عادل صار له أعداء من شياطين الإنس والجن.. وكانت إبنته الكُبرى قد تزوجت رجلا من قومٍ قبل أن ينقلبوا أعداءً له.. فساوموا ذلك الرجل على أن يطلِّق إبنة الملك على أن يزوِّجوه أجمل نساء الشرق قاطبة.. لكنَّ الفتى رفض أن يطلِّق زوجته التي يُحبها من كل قلبه، رغم معاداته لأبيها الملك العادل!! وتمر الأيام ويخرج الفتى العاشق مع قومه لقتال الملك العادل، بينما زوجته إبنة ذات الملك تنتظره في مخدعهما مزعزعة النفس بين حُب أبيها العظيم، وحُب زوجها.. إنَّ إنتصار أحدهما قد يعني هلاك الآخر.. ولا بد لأحدهما أن ينتصر وللمنهزم الموت!

وتنتهي الحرب وينتصر أبوها الملك العادل، ويتم أسر زوجها مع أسرى قومه، فتُرسل في فدائه بمال، وفي هذا المال قلادة أُمها الراحلة -حبيبة قلب الملك العادل-كانت قد أهدتها لها ليلة عُرسها، وتقع القلادة في يدِ أبيها الملك وهو في مجلس القيادة، فيعرف القلادة ويتذكَّر زوجته صاحبتها، ويرقُّ للذكرى وفاءً وحنينًا، حتى تدمع عيناه، فيستأذن قادة جيشه أن يُحرِّر الأسير ويرُد القلادة الغالية إلى إبنته الحبيبة، فيأذنون له.. فيشترط على زوج إبنته الأسير أن يُلحق زوجته بأبيها في مملكته، وكان الفتى على عداوته وفيًا للعهد، فردَّ الزوجة الحبيبة إلى أبيها الملك العادل، وهو يشعر أنَّ نفسه التي بين جنبيه تفارقه معها! وتمر سنوات طوال من الفِراق واللوعة والضنى، والزوجان المحبَّان يفصل بينهما صراعٌ لا دخل لهما فيه ولا قِبل لهم بمواجهته، وحول الملك العادل ثُلة من الحواريين من أخلص أصحابه، يوَدُ الواحد منهم أن يوطِّد علاقته بملكه المفدى بزواج إبنته، وكلٌ منهم له شأن في المملكة وفي الحياة، فهم نجوم مكارم الأخلاق.. لكنَّ الإبنة لا تعدُل بزوجها التائه في معسكر الأعداء زوجًا! في نهاية سنوات الأنين والحنين والصبر والأمل، يقوم أفراد من حرس مملكة العدل بأسر قافلة تُجارية على حدود المملكة، يقود القافلة الزوج السابق لإبنة الملك العادل، ويُرسَل الأسرى نحو العاصمة ليرى فيهم مجلس الحُكم رأيه، ويُدرك قائد القافلة أنَّه في مدينة المحبوب، فيسأل عن دارها، ويُهرع إليها لاجئًا في ليل.. وتنتظر المرأة حتى الصباح عندما يعقد أبوها مجلس الحُكم في مقر الحُكم، فتخرج على المجلس في حضرة أبيها الملك العظيم وفي حضرة مستشاريه ووزرائه لتعلن عليهم أنَّ (فلانًا) زوجَها السابق في حمايتها!!
ويعلن الملك العادل صادقًا، أنَّه ما علم بهذا الأمر إلا من بين شفتي إبنته مع المجتمعين حالا، وكانت قوانين المملكة تمنح الحماية لكل شخص دخل في حماية أي فردٍ من الشعب، وبذلك نال الأسير الحماية والأمان، ثم عُرض على الملك العادل، فخيَّره -آملا وهو يشعر بأنفاس إبنته تتلظى- بين أن يبقى في المملكة آمنًا، وبين أنْ يعود إلى قومه من أعداء الملك.. فيختار الأسير العودة إلى قومه، وهناك يسلم لهم أموالهم وتجارتهم، ثم يعلن انضمامه إلى مملكة الملك العادل، ويعود فيتزوج إبنة الملك التي ظلَّت تنتظره السنين العجاف!!

يتوقَّف عابد عن الاسترسال.. تصمت صابرة عن السؤال، كانت بحسها تدرك أنَّه دخل في نوبة بكاء لاهبة.. هي أيضًا تأثَّرت بشدَّة، أي امرأةٍ تلك التي فعلت في الحُب فعالا سبقت عصرها بمئات السنين؟! وأي مملكةٍ شرقيةٍ تلك كانت تحتمل هذه القصة قبل أكثر من ألف عام؟ في زمن كانت تُقتل فيه البنات لأنوثتهن!!

يضيف عابد بصوت يأتيها متهدِّجًا عبر سماعة الحاسوب:

إنَّ السنوات التي سيقضيها الزوجان معًا بعد طول افتراق، كانت أقل بكثير من تلك التي افترقا فيها.. ماتت أعظم مُحبة في تاريخ الشرق!!
ستدرك ذات العذوبة شخصيات أبطال حكاية عابد التاريخية، وستدرك لمَ حاول تجهيل الأسماء.. إنَّه يريد تجريد القصة لتصبح مثلا لإنسانية محرومة من حقها الطبيعي في العشق!!

وستدرك لمَ انقطع صوته وفُقد الاتصال بذكر موت البطلة الخالدة، فما كان لقلب عابد أن يحتمل الاستمرار بعد ذلك لحظة.. تمنَّت آنذاك لو أنَّها حليلته، لو أنَّها بجواره، لأخذت رأسه واحتوته في صدرها، وظلت تمسح وجنتيه من أثر انهمار دموعه الساخنات.. تهدهده حتى ينعس في صدرها، ساكبًا روحَه في ذاتها العذبة!!