كان ليل الصحراء قاسيًا تلك الليلة.
طالت ساعات الظلام ثقيلة على أكتاف الجنود، وتمدد فيلقهم بين جدران خندق طويل، كأن الصمت يحاصرهم، يحميهم من نيران لم تهدأ منذ يومين.
مدافع العدو تعزف لحن القصف المتواصل، وقنابلها التي تئن عبر الأودية والجبال تزرع الرعب في كل مكان، وتخلف الموت في العيون.
كان صراخ الرياح يوازي أنينهم، وسكون الليل يثقل على القلوب كأنه شريك في الحزن والتيه.
البرد تلك الليلة لم يكن بردًا مألوفًا؛
بل شيئًا يزحف في العظام، يسكن تحت الجلد، ويعضّ الأصابع حتى تفقد الإحساس.
في خندق ضيق بين الصخور والرمال، تمدد الجنود كأشباح مرهقة، أجسادهم متلاصقة، يصطادون الدفء من أنفاس بعضهم، واحتكاكهم كأنهم جسد واحد.
السماء فوقهم سوداء، لا نجمة تلمع، ولا قمر يخفف وطأة الليل.
لكن نيران القصف تشعل السماء، كأنها شهب ترسم لوحات هلاك، وتعزف موسيقى الخوف بنغمات سوبرانو حادة تصمّ الآذان.
الأرض كانت ترتجف أحيانًا تحت وقع القذائف، والهواء يشقّه صفير الموت كل ساعة.
لكن الأشد وطأة كان ذلك الصمت بين الانفجارات، حين لا يُسمع سوى أنين متقطع، وسعال مكتوم، وحفيف أوراق يحاول أحدهم أن يكتب فيها شيئًا... أو يدفن فيها خوفه.
في زاوية الخندق، جلس هو.
يحتضن بندقيته كأنها كتف أمه، ودفترًا صغيرًا بين ركبتيه. يفتحه بخفة، كأنه يخشى أن يوقظ الكلمات.
يده المرتعشة بالكاد تمسك القلم، وكل حرف يُنتزع من قلبه، والحبر له رائحة البارود ومذاق الخوف... لكنه يكتب.
بين الحرف والآخر، يرفع عينيه إلى صورة صغيرة يخفيها بين طيات الدفتر، لامرأة تحمل في عينيها كل دفء العالم.
تملأ قلبه بالأمل، حتى وإن لم يعلم إن كان سيرى وجهها مجددًا. يلمسها كمن يتحسس آخر ما تبقى من حياةٍ قد لا تعود، ويكتب، لأنه يؤمن أن هذه الكلمات وحدها ستبقى إن لم يبقَ هو.
من حوله، الجنود في صمت.
تماثيل من وحل وبرد. أحدهم يضغط على جرح قديم، آخر يغمض عينيه ويتمتم، كأنه يدعو في سرّه. وثالث يحدق في السماء كمن ينتظر معجزة لا تأتي.
"لن نصل إلى الصبح... أين هي المساعدة الجوية؟ لقد اقتربوا كثيرًا..."
همس أحدهم بصوت متهدج، وزفر زفرة كأنها خرجت من قبر. وسرعان ما ابتلعتها الأرض مع صدى قذيفة جديدة.
التفت الجندي إليه، التقت أعينهما. لم يتبادلا الكلام، فقط إيماءة خفيفة بين جنديين لا يجمع بينهما سوى البرد والرصاص.
ثم عاد إلى دفتره، وكأن العالم تراجع إلى الخلف، ولم يبقَ معه إلا الورقة... والحبر... واسمها.
لم يكن مجرد جندي يحمل بندقية ويتشح بالزي العسكري.
كان إنسانًا تائهًا وسط لهيب الحرب، ينهش قلبه الحنين إلى بيت لم يعد يتذكر تفاصيله بوضوح.
منذ شهور، حمل في جيبه صورة زوجته، النظرة في عينيها كانت تجعله ينسى الألم والخوف. كانت النظرة التي علّقت قلبه بالحياة.
لم يكن يخاف الموت فحسب، بل كان يرتعب من فكرة ألا يعود إلى تلك العيون التي كانت تملأ أيامه دفئًا.
هو لا يعيش في الخندق فقط، بل يعيش معركةً داخلية،
كل انفجار يقربه من النهاية، وكل لحظة صمت تبعده عن العالم الذي ينتمي إليه.
وسط هذا الجنون، كان الوحيد الذي يسمع معركته الحقيقية... مع نفسه.
كان يلتقط من حديث الجنود الخافت ابتسامة عابرة، لكنها لا تصل إلى عينيه. يتحدثون عن ذكريات الطعام، عن البيت، عن العودة. لكنه يعلم أن الموت قد يسبق كل ذلك.
ورغم هذا، لم يركع للحرب. كتب الرسالة، كأنها آخر ما سيتبقى منه، آخر خيط بينه وبين مَن يحب.
كل كلمة كانت وداعًا، كل حرف يشبه لحظة احتضار.
أغمض عينيه، وتخيل وجهها. وجه من يحب. تمسّك في قلبه بلحظات بعيدة عن الدم، عن الخوف.
نظر إلى الورقة، ابتسامة غير مكتملة على وجهه، كأنما يهمس بما لا يُقال. ثم توقف. لم يجد كلمات أخرى. لقد قال كل ما يمكن أن يُقال.
ثم… دوّى انفجار عنيف.
هجومٌ شرس اجتاح الخندق. ارتجفت الأرض، واشتعلت السماء، وكأن جهنم فتحت أبوابها دفعة واحدة.
قذيفة اخترقت الجدار الحجري، واهتز جسده. سمع الدوي، ثم عمّه الصمت. السواد غطى الأفق، والدخان غلّف كل شيء.
يده المرتعشة لا تزال تُمسك بالدفتر.
الورقة بين أصابعه. لم يتركها. تمسك بها كأنها آخر خيط يربطه بالعالم الذي يحب.
وحتى في اللحظة الأخيرة، كانت الورقة رفيقته، تمنحه رجاءً بأنه ترك شيئًا خلفه.
رغم كل شيء... لم يفلتها.
ظلّ ممسكًا بها...
كمن يكتب للمرة الأخيرة...
لقلب أحبه...
ويستحقُّ كلماتِ حبه.