ليلة خريفية رمضانية، داكنة، توشك على الولادة في باديةٍ هجرتها أنوار المدينة. لا مصابيح تُرى، سوى ضوء القمر المتسلل بين غلالات الغيم، كأن السماء نفسها تبحث عن طريقٍ لنا، فتغمر الأرض بنورٍ خافتٍ يكتنفه الغموض. البيوت غارقة في طينها، والقلوب متوهجة، كأن نور السماء قد انسكب فيها، ينير مسالك السكون.
من قلب ذلك السكون، يتصاعد بخارٌ خفيف من أحد البيوت، كأن الدفء يهمس في وجه الليل البارد، معلنًا عن حياةٍ تنبض خلف الجدران. فوق نارٍ هادئة، تغلي أباريق الشاي، ينبعث منها بخارٌ محمَّل بالطمأنينة، يتمازج مع نسيمٍ عليل يشمه القلب قبل الأنف.
حطب الزيتون، بسخاء أشجاره، كريمٌ بزيته وناره، يمنح دفأه رغم قسوة الطقس، كأن الأشجار تمدّ ذراعيها بعطفٍ أمومي، تحتضن البيت التقليدي وتسهر على راحة أبنائه، كما لو أنها لم تَشِخ رغم مرور السنين.
وفي الركن الساكن، حيث لا شيء يملأ الفضاء سوى الحنين، بدأت خطواته تتحرك بصمتٍ خفيف، كأن الذي يقوده هو قلبه، لا قدماه. كان يعشق شاي أمه، برائحته المغموسة في الزعتر البري، لا يمكن أن يضلّ عنه القلب مهما ابتعد. في طريقه، لا يسمع سوى نباح الكلاب البعيد وزقزقة طيور الزرزور، التي تضيء السماء بأجنحتها الحمراء رغم سوادها، كأنها رسائل مُشفَّرة من عالمٍ آخر.
أما المدينة، خلف الجبال، بأنوارها وذكرياتها، فقد غدت حنينًا خافتًا، يتكثّف في صدره كضبابٍ لا تعثر عليه ريح. حيث الذكريات تذوب في طيات الليل كما تتلاشى السحب في الأفق.
دخل المنزل بهدوء، كأن خطواته تتسلل خفية تحت وطأة الصمت، تلامس الأرض دون أن تصدر صوتًا. كانت المصابيح البسيطة تضيء الزوايا المظلمة للغرفة، حيث الجدران تحفظ أسرار حياةٍ عتيقة، تلك التي تجاهلتها المدينة.
أثاثٌ بسيط يملأ المكان، تتوسطه مائدة خشبية شبه مهترئة، تكاد تحكي حكايات الزمن البعيد؛ كل خدشٍ عليها يحمل ذكرى أيامٍ مضت. الجدران بلونٍ بني محمر، تنعكس عليها أضواء المصابيح المتلألئة، مما يضفي على المكان جوًا من غروبٍ مهيب، كأن للألم والذكريات ألوانًا متفردة.
في زاوية الغرفة، مذياع قديم ينبعث منه صوت آياتٍ قرآنية، يملأ الفراغ بروحانيةٍ ناعمة، كأن النغمات تخاطب الذاكرة نفسها. ومن خلف الستارة الرقيقة التي تفصل الغرفة عن المطبخ الطيني، سُمع صوت خافت لأقداحٍ تُرتب فوق صينيةٍ نحاسية، يختلط مع احتكاكٍ خفيف ينساب كهمسٍ دافئ في هذا الليل.
لم تكن تعلم بقدومه، أو ربما كان قلبها قد علم. كان صوتها الصامت، ذلك الصوت المألوف، كافيًا ليعيد إليه شعور الأمان الأول، ذاك الذي لا يُقال بل يُعاش. لحظة ثمينة، لا يجرؤ على مقاطعتها، كأنها صلاة.
ظلت الستارة ساكنة، لكن عبق الزعتر الطازج غمر الغرفة، معلنًا عن قرب فنجان شايٍ… شاي الأم. الأم، تلك المرأة البدوية التي، رغم تقدمها في السن، لا تزال تُظهر قوة لا تعرف الضعف. كانت تُعد المائدة الرمضانية كما اعتادت منذ سنوات، يداها تتحركان وكأنهما إيقاع آلي، لا يتوقف مع الزمن، حيث كل شيء يدور في فلكٍ ثابت، والزمن يسير فيهما وحيدًا.
كان كل شيء على المائدة يُرَتّب بعناية، كأن تلك اللحظات هي الأهم في العالم، لا مكان فيها للغفلة. فكل طبق وكل كوب يحمل في طياته جزءًا من تقاليد لا تتبدل، ويكشف عن طيب أصالة الأرض التي لا تساوم.
جلس الابن على مرتبةٍ قديمة مرصوفة بصوف الخرفان والماعز، يراقب المائدة التي ترتبها أمه. كان صمتٌ ثقيل يلف المكان قبيل الإفطار، يضغط على صدره أكثر من أي وقت مضى. كانت عيناه تلمح معانٍ من شوقٍ لم يخفِه قلبه؛ شوقٌ إلى المدينة، حيث زوجته وأبناؤه، وشعورٌ بثقل المسؤوليات التي يرزح تحت وطأتها. كانت تلاحقه كطيفٍ لا يرحل، يحيط به ويغلفه في كل لحظة، كأنها لا تتركه يلتقط أنفاسه.
بينما كانت كلمات أمه تتردد في أذنه، شعّ في ذهنه شريطٌ من الذكريات. في الزمان الذي مضى، كانت الأيام تمضي ببطء في هذه البادية الصغيرة، حيث كانت يدا أمه تزرع في الأرض الحب، وتغرس في قلبه ذكرياتٍ لا تموت. كان الابن حينها صغيرًا، يركض في الحقول خلف خيوط الشمس المائلة، وأمه تراقب من الباب. ابتسامتها تتناثر بين الهواء كغبار الذهب، تنثر الفرح في كل زاوية. "أسرع، لا تبتعد عني!" كانت تقول له، لكن قلبها كان يغمره الفرح وهو يرى فيه الحياة تتجدد، وكأنها تتجدد معه.
كان يركض وراء حلمه الصغير بين حقول الزيتون، رغم قسوة الأرض وغلاظة الطقس. كان يعتقد حينها أن الحياة لا مكان فيها للألم، وأن البراءة ستظل ثابتة. لكن اليوم، في لحظاتٍ مثل هذه، أصبحت تلك الذكريات هي التي تعيده إلى ذاته، كأنها خيطٌ يربطه بما فقده.
والآن، وهو جالس في الغرفة الصغيرة، وسط زواياها المظلمة، يسترجع تلك اللمحات كما لو كانت شيئًا غريبًا. كان يعتقد دائمًا أن المدينة ستشبع روحه، ولكن كلما ابتعد عنها، وجد نفسه يعود لتلك اللحظات البسيطة التي كان يهرب منها.
عيناه شاردتان تتأمل المائدة بينما أمه تضع طبقًا جديدًا، كما اعتادت. كل حركة كانت تذكّره بأيام مضت، كانت هناك، في عيونها، كل الحكايات التي لم تُقال، وكل الألم الذي كانت تخفيه وراء ابتسامتها.
كانت الطاولة الرمضانية، رغم بساطتها، تزخر بالأطباق التي تحكي حكايات تقاليد البادية والمدينة. يبدأ الإفطار بالتمر، كما فعل سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، ممهدًا الطريق لكل ما يتبعه من نفحات الطعم والبركة. إلى جانبه شربة الحريرة الساخنة التي تعبق بالبهارات، تزينها الشباكية المحلاة بعطر العسل، ثم يظهر البيض المسلوق، ويضفي حليب الماعز لمسة نضارة.
فكل شيء على المائدة كان يحكي عن الأرض، عن الطبيعة الأم، وعن الأيام التي لا تلامسها المدينة. ولا تكتمل الصورة دون الخبز الطري، المعد على الفرن البلدي، الذي يخرج وكأن بين طياته روح الأرض ورائحة الحياة البسيطة التي لا تعرف التراكم.
بعد الفطور وأداء الصلاة، جلست الأم قرب المائدة، مرتبة الصحون بصمتها الذي يخفي وراءه حكايات الألم والحنين، مرسومة على وجهها خطوط الحياة. رفعت نظرها نحو ابنها وسألته بصوتٍ مليء بالحزن والاهتمام، كأنها تفتح معه بابًا أغلق منذ زمن:
"كيف مر يومك؟ هل استطعت أن ترتاح قليلًا؟"
هز الابن رأسه دون كلمات، وانهمرت عليه نظرات صامتة، تحمل قسوة أكبر من أي كلمة. ثم قال بصوت منخفض، كأن الكلمات كانت تحترق في فمه: "منذ رحيل والدي، تغيّرت كل الأمور بسرعة. لم أكن أتوقع تلك الأخبار، وكان من الصعب تصديق أنني عدت بهذه السرعة."
سكتت لحظة، ثم تابعت بصوتٍ متردد، كأنها تقيس كلماتها قبل أن تنطق بها: "أنا أعرف أن مدينتكم لا تشبه البادية، وزوجتك لم تشأ القدوم. أليس كذلك؟"
خافضًا عينيه، وقلبه يغرق في الذكريات، أجاب بصوت هادئ، محاولًا تهدئة الألم الذي يعتصره: "نعم، هي لم ترغب في القدوم... وأنا لا أستطيع البقاء هنا إلى الأبد. لا ألومها، كما تعلمين، أبنائي يتابعون دراستهم، ولا مدارس تناسبهم هنا. لا أعرف ما الحل؟"
مرت لحظة صمت أخرى، ثم ابتسمت الأم برقة، دون أن تنطق بكلمة، فقط لتؤكد أن العلاقة بينهما أكبر من أي كلمة، أكبر من فراق المدينة أو لمسة الحنين.
صمتٌ ثقيل خيم على المكان، ونظرات متشابكة تروي ألم قلبين بصمت. عيون قاربت على البكاء، لكن دموعهما تأبى التدفق؛ كبرياء أم، وإحساس خذلان ابن.
بعد برهة، نظر الابن نحو أمه، عينيه تعكسان التردد والحنين، كأنه يمسك بخيوط الماضي التي تفر من يديه. جلس هناك، بين ماضيه وحاضره، في تلك اللحظة الحاسمة التي لا مفر منها، حينما تقف الحياة على مفترق طرق. كانت الكلمات تختنق في صدره، وهو يعلم أن العودة إلى المدينة تعني التزامًا ومسؤوليات، بينما البقاء هنا يعني فراقًا دائمًا لأسرته، والدته الوحيدة.
أمسك بكوب الشاي الذي لا يزال ساخنًا، وتجرع منه ببطء، وكأن كل رشفة تكشف له شيئًا عن نفسه وعن الخيار الذي عليه اتخاذه، وكأن الشاي ذاته يحمل في جوفه جوابًا لما يشغل قلبه. كانت أمه تراقبه بصمت، تعلم في أعماقها أنه لا مفر من اللحظة التي سيغادر فيها، لكنها في قرارة نفسها، كانت تأمل أن يبقى.
لكن في النهاية، خرجت الكلمات من شفتيه، بلهجة ضعيفة: "سأعود إلى عائلتي... لكنني سأزورك كلما استطعت. لن أدع الأيام تطول بيننا، فأنت دائمًا في قلبي وعقلي، ولن أنساك أبدًا أمي."
خرج من البيت، وقف لحظة أمام الباب، ينظر إلى السماء التي بدأت تضيء، وكأن ضوء الفجر كان يبعث في قلبه بعض الأمل. ولكن، ذلك الأمل لم يكن ليغني عن مرارة العيش بين مدينتين لا تلتقيان إلا في الذكريات. شعر بثقلٍ في قلبه، وكأن كل خطوة يخطوها تقوده إلى مفترق طريق لا عودة فيه.
وهو يسير مبتعدًا عن البيت، شعر بفراغ يملأ قلبه، وبمسافة تزيد بينه وبين كل ما يعرفه، وبين ما سيظل يذكره. كانت خطواته تتسارع مع كل لحظة، لكن الطريق كان لا يبدو له نهايته، وكأن الزمن نفسه قد توقف عند تلك اللحظة.
وقف في منتصف الطريق، تملكه رغبة قوية في العودة، في العودة إلى أمه التي تنتظره، ولكن قلبه كان يعرف في أعماقه أن هذا ليس هو الخيار الصحيح. أكمل سيره مطأطأ الرأس في طريقٍ غير مرئي، ممتلئ بالشكوك والآلام. الحياة لا تتوقف عند نقطة معينة، كما أن الألم لا يستمر إلى الأبد.
وفي تلك اللحظة، شعر بشيء جديد يلامس قلبه، ليس الأمل، بل نوع من التقبل. تقبل أن الحياة لا تعني دائمًا العودة إلى ما كان، بل المضي قدمًا إلى ما سيكون. ربما سيعود يومًا، وربما لن يفعل. لكنه الآن يعرف أن ما يراه أمامه هو المستقبل الذي عليه أن يواجهه، وليس الماضي الذي عليه أن يهرب منه. أخذ نفسًا عميقًا، وأكمل سيره، في قلبه شوق وحزن، وفي عينيه بريق من الأمل.
شيء خاص لن ينساه أبدًا، لحظة خروجه وأمه على عتبة الباب، لم تودّعه بكلمة، فقط نظرت إليه طويلاً، كأنها تحفظ ملامحه في الذاكرة. أما هو، فكان يمشي وهو يشعر أن خطواته تُثقلها أم لا تطلب شيئًا… سوى أن لا تُنسى.