توقّفت البنادق، وبدأت الشمس تشرق بلون ذهبيّ على الخنادق التي يطغى عليها لون الدم الأحمر القاني، ليمتزج اللونان ويُصبح الفجر شاحبًا كالغروب، في أفق بحرٍ من الحيتان الميتة، تتقاذفها الأمواج الصغيرة دون أن تحركها... جثث هامدة.
جنود الأعداء عادوا إلى خطوطهم، وجنودنا تقدّموا، لا للحرب، بل لاسترجاع الموتى. الأرض التي شهدت المعركة تعكس صمتًا غريبًا، وكأنها تحاول استيعاب ما جرى.
الحركة بين الخنادق أصبحت بطيئة، عيون تبحث بين الركام عن ناجين، ووجوه الجنود شاحبة، حيرى، تنقّب بأمل تحت الأنقاض عمّا تبقّى من أصدقاء رحلوا، تاركين خلفهم آثارًا لا تُمحى.
كانت مجزرة. لم ينجُ جنديّ واحد من الفيلق بكامله.
على امتداد الخندق الطويل، انتشر الجنود الجدد في صمتٍ ثقيل. فقط همسات متقطعة، وأصوات خطوات حذرة تخترق الرماد.
كانوا يجمعون الأجساد واحدة تلو الأخرى، يرفعونها من تحت الركام، من بين الصخور، من العراء البارد... بعضها بلا ملامح، بعضها ما زال يحتفظ بوضعيته الأخيرة، كما لو أن الزمن توقّف عندها فجأة، «كساعة حائط تعطّلت في لحظة القصف».
الأغطية العسكرية فُرشت على الأرض، لتتحول إلى أكفان ميدانية. كل جسد يُحمل برفق، كأنهم يخشون إيقاظه.
كانوا يهمسون بأسماء، يتحقّقون من بطاقات الهوية، ثم يُواصلون في صمت.
وفي زاوية الخندق، حيث التصقت جدرانه بالصخور، وجد أحدهم جنديًا متكئًا إلى الجدار، رأسه مائل، وبندقيته بين ذراعيه كأنها ما زالت تؤمّن له الحماية.
يده اليمنى لا تزال تقبض على دفتر صغير، مبلّل بالدم والتراب، لكنه مغلق بإحكام، كأنّه أغلى ما يملك، «كأن الدفتر نفسه نزف، لا صاحبه فقط».
اقترب الجندي ببطء، جلس على ركبتيه، ومدّ يده بحذر، ثم حاول الإمساك بالدفتر.
لكن قبضة الجندي الميت كانت محكمة، كما لو أن روحه تشبثت بالرسالة قبل أن تغادره.
حاول أن يحرر الدفتر من بين أصابعه، لكنه واجه صعوبة؛ كانت اليد متيبّسة، والعروق قد جفّ فيها الدم، والبرد زادها تصلّبًا.
شدّ على اليد مرة ثانية برفق، لا خوفًا، بل احترامًا، كأنه يسحب روحًا علقت بين أصابع الموت.
أخيرًا، أخرج الدفتر كاملاً، لكن الورقة الأولى كانت شبه ممزقة... بها رسالة مكتوبة بخطٍ متعرّج، متقطّع، يشبه النبضات الأخيرة لقلبٍ أنهكه الانتظار.
رفع الجندي عينيه إلى زملائه ثم همس:
"كان يكتب... حتى آخر لحظة."
أراد أن يتصفّح باقي صفحات الدفتر، لعلّ فيها ما يُكمل الرسالة، أو يوضّح سياقها.
وبينما كان يقلب الورقة التالية، سقطت صورة صغيرة من بين الصفحات.
انحنى أحد الجنود والتقطها، تأمّلها لحظة، «كمن يعيد التقاط ظلّ حياة عبر زجاج مكسور»، ثم قال وهو يناولها لحامل الدفتر:
"إنها صورة زوجته... رحمه الله."
أخذ الصورة منه بهدوء، قلبها ليرى ما كُتب خلفها: "زوجتي الحبيبة..."
نظر إليها لحظة، ثم أعادها إلى مكانها بين صفحات الدفتر.
عيناه لم تدمعا، لكنها لم تكن جافتين.
وحين رفع رأسه، كان في صوته شيء من الانكسار، لكنه ظل صامدًا.
توسّط رفاقه، وقال بصوت خافت:
"هي رسالة لزوجته... ليس لنا حقّ قراءتها."
سكت لحظة، ثم نظر في الوجوه التي حوله، كأنّما يستأذنهم، ثم قرأ بصوتٍ هادئ، تخنقه العاطفة:
لو لم تكن الحرب...
كنتُ سأزرع شجرة برتقال أمام بيتنا، ونسقيها معًا كل صباح.
كنت سأكتب لكِ القصائد بدل تقارير المواقع،
كنت سأنتظر المساء لأحدّثك عن يومي، لا عن موت الآخرين.
لو لم تكن الحرب، لما عرفتُ كم يمكن أن يكون الاشتياق قاسيًا، حد أن يُمزق القلب دون قطرة دم.
لو لم تكن الحرب، لما عرفتُ أن لا أحد يربح.
نحن لا نربح، هم لا يربحون.
الحرب فقط تأخذ، كل شيء... وتترك الصمت.
إذا وصلتك هذه الكلمات، فابتسمي من أجلي،
واغفري لهذا العالم الذي سرقني منكِ،
وسيظلّ يسرق... دون أن يمنحنا حتى وداعًا لائقًا.
طوى الدفتر، ووضعه على صدر صاحبه...
ثم وقف، ورفع عينيه نحو الأفق، كأنه يبحث عن سلامٍ لن يأتي، «كمن يحدّق في ضوء شمعة خبت، علّها تشتعل من جديد».
وقال له:
ستصلها رسالتك... وداعًا، أيها الجنديّ البطل