أحدث المشاركات
النتائج 1 إلى 2 من 2

الموضوع: مرآة نفرتيتي

  1. #1
    الصورة الرمزية المصطفى البوخاري
    قلم منتسب
    تاريخ التسجيل : Dec 2016
    الدولة : مكناس المغرب
    المشاركات : 75
    المواضيع : 40
    الردود : 75
    المعدل اليومي : 0.02

    افتراضي مرآة نفرتيتي

    كانت الساعة قد تجاوزت منتصف الليل، والشارع المقابل لمنزلها يغمره السكون، إلا من همسات الرياح التي تتسلل بين النوافذ المشرعة.
    جلست فاطمة أمام المرآة، تعكس صورًا لم تعد تعرفها. تلك العيون التي كانت تلمع بالأمل، غمرتها الآن ظلال الشكوك.
    كل خطوة اتخذتها في حياتها، كل قرار مرتجل، عاد إليها كألمٍ مستمر، ينبض في ذاكرتها كسكين تُغرس ببطء.
    أخفت وجهها بين يديها، وسقطت دمعة، ثم لحقتها أخرى، كما لو أن السد قد تَصدّع.
    لم تقوَ على مقاومة طوفان الندم؛ شعرت بضعفٍ غريب يغزو قلبها، يسرق منها تلك الصلابة التي طالما تظاهرت بها.
    كما لو أن صرخة عميقة خرجت من داخلها، ولم تسمعها سوى هي.
    صرخة على الوقت الضائع، والعلاقات المهدورة، والفرص التي أغلق بابها قبل أن تولد.
    وفي صمت الليل، كانت صرخات ضعفها تتردد في عقلها، كأنها ترنيمة انكسار لا يسمعها سواها، تكشف لها حقيقة واحدة: لا شيء يعود إلى الوراء.
    قبل أن تتبدد في مرآتها، سافرت بذاكرتها إلى زمنٍ لم يكن فيه للندم مكان.
    زمنٍ كانت الحياة فيه تتمايل بين يديها، كما لو خُلقت لتدللها.
    فاطمة، كانت في قمة الجمال؛ عيناها زرقاوان كمحيط هادئ، من ينظر إليهما يغوص في نقائهما ويتوه في خلجانهما.
    عينان تمزجان السكينة بالعذاب، تنطقان بأسرار من عالمٍ بعيد.
    نظراتها كانت نوافذ إلى أغوار عوالم لا يُدركها سوى من تجرّأ على استكشافها.
    جمالها لم يقتصر على العيون؛ بل كان شعرها الأسود اللامع ينسدل على كتفيها كالحرير، يصل إلى خصرها كستار ليلٍ مخملي، يخفي مفاتنها أكثر مما يُظهر.
    أما وجهها، فكان منحوتًا بدقة فرعونية، تتناغم فيه الخطوط كأنها رُسمت على يد نحات أسطوري.
    ابتسامتها، تلك التي تسلب اللبّ، كانت كفيلة بأن تجعل العالم يتوقف للحظة.
    فاطمة لم تكن تجهل جمالها، بل كانت تعتبره أداة قوتها، تفتح به القلوب كما تُفتح النوافذ للريح، دون إذن أو استئذان.
    جمالٌ صاخب، لا يعرف التردد، ولا يترك خلفه إلا العبث والكبرياء.
    كانت في مقتبل العمر، تنتمي لعائلة أرستقراطية ذات جذورٍ ضاربة في الوجاهة والمكانة. تلقت تعليمها في أرقى المدارس، تتحدث عدة لغات بطلاقة، وتقرأ الأدب الفرنسي كما لو كان مكتوبًا لها وحدها. كانت تمشي في قلب الثراء، ترتدي أفخر الملابس، وتضع أغلى العطور، وتزين معصمها بساعاتٍ فريدة تزيدها بهاءً.
    حياتها كانت تشبه حياة الملوك.
    رغباتها تُلبّى قبل أن تنطق بها، وكانت مدللة البيت، محطّ الأنظار.
    لا يُرفض لها طلب، ولا يُؤجَّل لها أمر.
    القصر الذي نشأت فيه، لم يكن مجرد منزل، بل مسرحًا لنخبة من النبلاء.
    حفلات أسبوعية تُقام فيه، ليس للترفيه بل لتبادل المشاريع ومناقشة الاستثمارات.
    كانت فاطمة محور تلك السهرات، بجمالها الفتّان وأناقتها الطاغية.
    بعض أغنياء البلد كانوا يشاركون والدها العقود والصفقات طمعًا في نظرة منها، وربما رقصة قصيرة وسط الموسيقى.
    كل مساء سبت، كانت هناك حفلة، وكل الأنظار تتجه إليها.
    تسير بخطوات ثابتة، وتحدث الحضور بكلامٍ لا يخطئ، تسيطر عليهم بصوتها، وكأنها سيدة الزمان والمكان.
    كان العزاب والمتزوجون يحومون حولها، يتنافسون على كسب ودّها.
    فاطمة كانت تعيش عصرها الذهبي، كأنها نفرتيتي تمشي على الأرض، بجمالٍ لا يحتاج إلى فرعون، وعرش لا يتّسع إلا أخناتون.
    ورغم الإعجاب الذي يحيط بها، كانت فاطمة كمن يسكن قصرًا لا تُفتح أبوابه.
    لم تُغوها الهدايا ولا الغزل، ولم تكن تؤمن بالحب كما تُروى أساطيره.
    كانت تشعر أن فرعونها لم يُخلق بعد، ترفض أن تُختصر في علاقة، أو تكون تفصيلًا في حياة أحد.
    تريد أن تكون البداية والنهاية، السؤال والجواب، اللغز والحل.
    لكن...
    صفقة واحدة كانت كفيلة بقلب الطاولة.
    والدها، الذي خاض عالم البورصة بثقة، دخل في صفقة ظنّ أنها ستخلّد اسمه، فإذا بها تبتلع كل شيء.
    انقلب السوق، وتحولت الأرباح إلى رماد، وتبخرت الثروة كما يتبخر العطر في ريح ساخنة.
    القصر فقد بريقه، والحفلات توقفت، والصفقات أُغلقت بلا رجعة.
    تلك كانت بداية النهاية.
    عصرها الذهبي لم يعد سوى صدى بعيد، جسر هش يربط بين مجدٍ مضى وواقعٍ لا يشبهه.
    عادت فاطمة إلى مرآتها، تحدّق فيها كما لو كانت ترى وجهًا يطفو فوق جدول ماء بارد، يعكس صورة غريبة لا تكاد تتعرف عليها.
    ملامحها التي طالما شعّت بالثقة، باتت مشوشة.
    والعينان اللتان أضاءهما الأمل، غمرتهما الظلال.
    همست، بصوت يقطر مرارة:
    "ألم تكوني معي؟ ألم تخبريني أنني لا أحتاج لأحد؟"
    ثم بصوت متهدّج:
    "كنت أظنني فوق الجميع... لكن انظري إليّ الآن، هل هذا ما وعدتِني به؟"
    صمت ثقيل خيّم على الغرفة.
    وكأنها تنتظر جوابًا لن يأتي.
    ثم همست، بالكاد يُسمع صوتها:
    "لقد خدعتِني، أليس كذلك؟
    كنتِ تقنعينني أن لا حاجة لي بالآخرين...
    لكنني الآن هنا، وحيدة، أبحث عن ما لن يعود."
    المرآة لا تجيب.
    فقط تعكس شبح سيدة غاضبة، محطّمة.
    أغمضت عينيها.
    تنفّست بعمق.
    ثم، فجأة، وبدفعة واحدة، ضربت المرآة بكلتي يديها.
    تهشّمت الزجاجات وتناثرت شظاياها على الأرض.
    نظرت إلى انعكاسها المكسور، وقالت بصوت متهدّج، من بين الأنفاس المتقطعة:
    "كنتِ تقولين لي إن الجمال قوة، والثروة سلطة...
    لكنني الآن أعرف — الجمال لا يحمي، والثروة لا تؤنس، والكبر لا يُعيل الروح."
    سكتت لحظة، كأنها تُحدّق في شظية منها، ثم أردفت:
    "ومع ذلك... لن أنحني."
    نهضت، لملمت بقايا صمتها، ورفعت رأسها نحو العتمة.
    همست كمن يعلن بداية جديدة:
    "سأكون على الأقل... فاطمة.
    تلك التي لا تعيش في ظل أحد."

  2. #2
    مشرفة عامة
    أديبة

    تاريخ التسجيل : Aug 2012
    المشاركات : 22,368
    المواضيع : 372
    الردود : 22368
    المعدل اليومي : 4.81

    افتراضي

    بقاء الحال من المحال ، والأيام دول
    ولا شيء يدوم لا الجمال ، أو الثروة أو السلطة
    فالجمال لا يحمي، والثروة لا تؤنس ، والكبر لا يعيل الروح
    هكذا قالت فاطمة لنفسها
    وقد قررت أن لا تنحني بل أن تبدأ بداية جديدة
    تحقق ذاتها وأن لا تعيش في ظل أ حد.
    قصة من الواقع صادقة وعميقة الدلالة مصاغة
    بحنكة وذكاء ــ وقفلة قوية ومدهشة.
    تحياتي وتقديري.
    نقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعينقره لتكبير أو تصغير الصورة ونقرتين لعرض الصورة في صفحة مستقلة بحجمها الطبيعي