9-: الخَيْطُ الأَحْمَرُ
تَمَدَّدَ الليلُ كثوبٍ من حريرٍ أسودَ فوقَ جسدِ المدينةِ، ولم يكن هدوؤُهُ الساكنُ إلا وجهًا لصراعٍ خفيٍّ يتأرجحُ في أعماقِ الظلامِ. في مكتبِهِ، كان الضابطُ مروان يُحدقُ في شاشةِ حاسوبِهِ، وفي أعماقِ عينيهِ تلمعُ شرارةُ يقينٍ باردٍ. لقد تَلَقَّى رسالةً مُشَفَّرَةً جديدةً، وشعرَ بأنها قد تكونُ الخيطَ الذي يقودُهُ إلى نهايةِ الحقيقةِ.
كان سميرٌ يعرفُ أنَّ المنظمةَ تَمُدُّ يدَها إلى كلِّ شيءٍ، حتى مصادرِ الأخبارِ. لذلك، اتخذَ من عناوينِ المقالاتِ في الصحفِ اليوميةِ ملاذًا لرسائلِهِ. كان العنوانُ الجديدُ يُثيرُ الحيرةَ: "سُقوطُ الوَرْدَةِ الحمراءِ في ليلٍ حالكٍ".
توقفَ مروانُ وتأمَّلَ العبارةَ، كأنهُ يَفُكُّ رمزًا قديمًا. "الوَرْدَةُ الحمراءُ"... ألم يكنْ هذا اسمَ الشارعِ الذي وقعتْ فيهِ جريمةُ سُمَيَّةَ؟ وكان بيتُها يقعُ عليهِ. شعرَ مروانُ بخيطٍ شفافٍ يرتبطُ بينَ الجريمةِ واختفاءِ سميرٍ. لم يكنِ العنوانُ مُجردَ كلماتٍ، بل خريطةً مُشَفَّرَةً. أخذَ خريطةَ المدينةِ ووضعَ عدسةً مُكَبِّرَةً على الشارعِ. بحثَ عن أيِّ نقطةٍ غريبةٍ، حتى وجدَ مخزنًا قديمًا ومَهْجُورًا. لم يعرفْ لمن هو، ولم يكنْ متأكدًا من الأمرِ، لكنَّ حدسَهُ كان يدفعُهُ إلى الداخلِ.
قرَّرَ مروانُ أن يتحركَ بحذرٍ وسرِّيَّةٍ، فلم يستعنْ بأيِّ فريقٍ، خوفًا من أن يكونَ أحدُهم مُتعاونًا مع المنظمةِ. بمجردِ وصولِهِ، لاحظَ أنَّ قفلَ المخزنِ القديمِ مكسورٌ. دخلَ بهدوءٍ في الظلامِ الذي ابتلعَ المكانَ، وسارَ بينَ الصناديقِ القديمةِ. وصلَ إلى صندوقٍ صغيرٍ، لم يلتفتْ لما عليهِ من رموزٍ لمنظمةِ الوِدَادِ، بل كانت عيناهُ مُرَكَّزَتَيْنِ على محتواهُ. وعندما فتحَهُ، كانت المفاجأةُ مُدْوِيَةً: تقريرٌ طبيٌّ يحملُ اسمَ حُسامٍ، وإلى جانبِهِ مُذَكِّرَةٌ بخطِّ يدِهِ: "وصلتْ إليها الوَرْدَةُ الحمراءُ، وستسقطُ كلُّ الورودِ الأخرى". أدركَ مروانُ أنَّ الوباءَ لم يكنْ قدرًا، بل سلاحًا بشعًا. لقد كان حُسامٌ هو المصدرَ الأصليَّ للفيروسِ الذي انتقلَ بخيوطٍ خفيةٍ من ناهدٍ إلى سُمَيَّةَ، ثم من سُمَيَّةَ إلى صَفْوانَ، كسلسلةٍ منسوجةٍ بالدمِ والخيانةِ.
وبينما كان يُغادرُ المخزنَ، التقطتْ أذناهُ صوتًا خافتًا يأتي من أعماقِ المكانِ. كان صوتًا مليئًا باليأسِ. اتبعَهُ مروانُ بحذرٍ، ووصلَ إلى غرفةٍ صغيرةٍ مُختبئةٍ خلفَ الصناديقِ، وجدَ فيها سميرًا وفارسًا مُقَيَّدَيْنِ، وقد كان الجميعُ يعتقدُ أنهما هربا.
همسَ سميرٌ بصوتٍ مُرتعشٍ: "لا تقتربْ... إنهم قادمون." سمعَ مروانُ صوتَ خطواتٍ سريعةٍ تقتربُ. لم يكنْ لديهِ الوقتُ للهربِ، فاختبأَ بسرعةٍ خلفَ الصناديقِ القديمةِ. دخلَ رجلانِ مُلَثَّمَانِ إلى الغرفةِ، يحملانِ مسدَّسَيْنِ، ويتحدثانِ عن نقلِ سميرٍ وفارسٍ. شعرَ مروانُ أنَّ القَدَرَ يُديرُ لهُ ظهرَهُ.
في تلكَ اللحظةِ الحرجةِ، سقطتْ من جيبِ أحدِ الرجلينِ ورقةٌ صغيرةٌ. عندما انحنى لأخذِها، اندفعَ مروانُ من مخبئِهِ مُفَاجِئًا لهما. اندلعَ اشتباكٌ مُسَلَّحٌ، تمكَّنَ فيهِ مروانُ من إسقاطِ أحدِهما، بينما فَرَّ الآخرُ، تاركًا وراءَهُ دليلًا جديدًا.
في الفوضى، التقطَ مروانُ الورقةَ التي سقطتْ. كانت عبارةً عن قائمةِ أسماءٍ. كان الاسمُ الأولُ "الحاجُّ محمدٌ"، ثم "سُمَيَّةُ"، و"سميرٌ"، و"فارسٌ"، وبجانبِ كلِّ اسمٍ كانت كلمةٌ "يَسْقُطُ". لكنَّ الاسمَ الأخيرَ كان مختلفًا: "الضابطُ مروانُ"، وبجانبِهِ كلمةُ "يُنْهَى".
أدركَ مروانُ أنَّهُ لم يَعُدْ مُحَقِّقًا، بل هدفًا.
بعدَ أن أنقذَ الضابطُ مروانُ سميرًا وفارسًا وغادرَ المكانَ، لم يَعُدِ الخطرُ مُجردَ شُبهةٍ. القائمةُ التي وجدَها كانت دليلًا قاطعًا على أنَّهُ أصبحَ هو نفسُهُ هدفًا للمنظمةِ. وبينما كانت سيارةُ الإسعافِ تنقلُ سميرًا وفارسًا إلى المستشفى، كان مروانُ يُركِّزُ على الكلمةِ الأخيرةِ في القائمةِ: "يُنْهَى".
وفي المستشفى، كشفَ التاجرُ سميرٌ لمروانَ سرَّ علاقتهِ بفارسٍ، فقد كان فارسٌ عميلًا للمنظمةِ، مُكلَّفًا بنصبِ كمينٍ لسميرٍ وسحبِ أموالهِ. لكنَّ فارسًا خانَ المنظمةَ، وسحبَ مبلغًا لنفسِهِ وسلَّمَ لهم الفتاتَ، ولهذا اعتُبرَ مُتمرِّدًا وحُبِسَ إلى جانبِ سميرٍ. وتذكَّرَ سميرٌ أنَّ فاهِمًا التقطَ لهما صورةً في لقاءٍ سابقٍ كان قد تمَّ بينهما. كان هذا اللقاءُ قد حدثَ عندما كان كلاهما، سميرٌ وفارسٌ، تحتَ ضغطِ المنظمةِ لتنفيذِ مهامِّهما، كلٌّ حسبَ دوره، وهي نفسُ الصورةُ التي أصبحتْ لغزًا مُحَيِّرًا. أدركَ مروانُ أنَّ هذهِ الخيوطَ المنسوجةَ بالخيانةِ هي ما تشكِّلُ الخيطَ الأحمرَ لجريمةٍ أكبرَ.
10: فَجْرٌ لمْ يَكْتَمِلْ
كَانَتِ السَّاعَةُ الثَّانِيَةَ فَجْرًا، لَكِنَّهَا كَانَتِ الْفَجْرَ الْأَوَّلَ فِي عَالَمِهِ الْجَدِيدِ. شَاشَةُ حَاسُوبِهِ كَانَتْ تَنْزِفُ ضَوْءًا أَزْرَقَ بَاهِتًا عَلَى وَجْهِهِ الْمُتْعَبِ، بَيْنَمَا كَانَتْ مِلَفَّاتُ الْقَضَايَا الْمَتْرُوكَةِ تَتَكَّوَّمُ أَمَامَهُ كَشَوَاهِدِ قُبُورٍ وَرَقِيَّةٍ. لَمْ يَعُدْ يَرَى فِيهَا أَسْمَاءً وَوَقَائِعَ، بَلْ صُوَرًا مُهَشَّمَةً لِضَحَايَا وَقَعُوا تَحْتَ لَعْنَةِ كَائِنٍ لَا يَمْلِكُ وَجْهًا. أَدْرَكَ أَنَّ الْحَقَائِقَ الَّتِي كَانَ يَبْحَثُ عَنْهَا لَمْ تَكُنْ سِوَى أَذْرُعٍ لِأُخْطُبُوطٍ مِنَ الظِّلِّ، يَتَنَفَّسُ عَبْرَ الثُّقُوبِ الَّتِي يَتْرُكُهَا الْمَالُ خَلْفَهُ، وَيَتَحَرَّكُ فِي عُرُوقِ الْمُدُنِ كَطَاعُونٍ صَامِتٍ. شَعَرَ بِأَنَّ كُلَّ خَيْطٍ يُمْسِكُهُ مِنْ اعْتِرَافِ نَاهِدٍ قَبْلَ مَوْتِهَا لَيْسَ خَيْطَ نَجَاةٍ، بَلْ قَيْدًا يَرْبُطُهُ إِلَى مَتَاهَةٍ بِلَا نِهَايَةٍ، وَأَنَّ الْمَعْرَكَةَ الَّتِي ظَنَّهَا قَدِ انْتَهَتْ، قَدْ بَدَأَتْ لِلتَّوِّ.
الخطرُ داخلَ الجدرانِ
وبينما كانت ناهدٌ في سجنِها، تستعدُّ للتحقيقِ، تَلَقَّتْ مكالمةً هاتفيةً من رقمٍ غريبٍ. كان الصوتُ هادئًا وباردًا، ولكنهُ كان يملكُ قوةً تجعلها ترتجفُ.
"أراكِ تُخفينَ بعضَ الأسرارِ يا ناهدُ، أليسَ كذلك؟ أعلمُ كلَّ شيءٍ عنكِ... وعن حُسامٍ. لا تُخبري الضابطَ بشيءٍ، وإلا سوفَ تندمين."
وبينما كانت ناهدٌ تتوسلُ، انقطعَ الخطُّ. تركَها الصوتُ في حالةٍ من الذعرِ، وأدركتْ أنَّ الخطرَ ليس خارجَ السجنِ، بل داخلَ جدرانِهِ.
وفي صباحِ اليومِ التالي، بينما كان مروانُ يستعدُّ لمواصلةِ تحقيقِهِ، تَلَقَّى اتصالًا من زميلٍ لهُ في قسمِ التحقيقاتِ. كان الصوتُ مليئًا بالذعرِ.
"الضابطُ مروانُ، يجبُ أن تأتي إلى هنا على الفورِ. ناهدٌ... لقد وُجدتْ ميتةً في زنزانتِها. يبدو أنها انتحرتْ."
شعرَ مروانُ بقلبهِ يخفقُ بقوةٍ. لم تكنْ ناهدٌ لتنتحرَ. لقد كانت خيوطُ المؤامرةِ تتسرَّبُ من يدِهِ. في لحظةٍ واحدةٍ أدركَ: "هذهِ ليستْ نهايةَ القضيةِ، بل هي بدايةُ حربٍ جديدةٍ."
ذهبَ مروانُ مُسرعًا إلى الزنزانةِ. بعدَ مُعَاينةٍ سريعةٍ للمكانِ، وجدَ في يدِ ناهدٍ المقبوضةِ ورقةً مَطْوِيَّةً لا تحملُ سوى كلمتينِ مكتوبتينِ بخطٍّ عَجُولٍ: "الخِتامُ... الرَّحْبِيُّ".
نظرَ مروانُ حولَهُ بحذرٍ، فالكلمتانِ لم تكونا بلا مَعْنًى. بحثَ في بقيةِ أغراضِها القليلةِ، فعثرَ على مجموعةِ أوراقٍ مَبْعْثَرَةٍ بينَ طيَّاتِ معطفِها. وجدَ فيها القصيدةَ كاملةً، مكتوبةً بخطٍّ أنيقٍ ومُرَتَّبٍ، كأنها قد استذكرتْها كشاهدةٍ على خيانتِها وندمِها. عَرَفَ مروانُ على الفورِ أنها قصيدةٌ للشاعرِ الرَّحْبِيِّ، وشعرَ أنها لسانُ حالِها في لحظاتِها الأخيرةِ، تعترفُ فيها بالخطأِ الذي أوقعها في الجحيمِ:
وَهَلْ يُهْدَى لِدَرْبِ الحَقِّ بَاغٍ
إِذَا مَا عَمَّ فِي النَّفْسِ الظَّلَامُ
وَأَغْوَاهَا وَتَاهَ بِهَا اِغْتِرَارٌ
وَأَضْرَمَهَا وَأَغْرَاهَا العَرَامُ
وَأَرْكَسَهَا وَتَاهَ بِكُلِّ مَعْنًى
عَنِ الخَطِّ السَّوِيِّ هَوًى حَرَامُ
فَمَنْ رَامَ الوُصُولَ بِغَيْرِ هَدْيٍ
تُشَتِّتْهُ المَتَاهَاتُ العِظَامُ
وَيَطْوِي ظِلَّهُ التَّارِيخُ يَوْمًا
بِمَا صَنَعَتْ يَدَاهُ وَكَمْ يُلَامُ
وَكَمْ نَاسٌ أَضَرَّ بِهِمْ هَوَاهُمْ
وَسَاءَ بِهِمْ عَنِ الدَّرْبِ الخِتَامُ
وَقَدْ حَادُوا بِمَا اِقْتَرَفُوهُ ظُلْمًا
وَعَرَّشَ فِي مَسَالِكِهِمْ ظَلَامُ
فَبُعْدًا لِلْغَاوِيَةِ حَيْثُ كَانَتْ
وَهَلْ يَجْدِي وَقَدْ وَقَعَ الحُسَامُ