* قراءة جديدة في أوراق قديمة ( 1 )

فاكهة الوطن .. وكرامة الأنبيــاء !!

إبراهيم سعد الدين

حين لقيته تذكَّرْتُ قولة المسيح عليه السلام (الإنسان مولود المرأة شبْعانٌ تعباً). كان جحوظ عينيه قد توارى خلف التجاعيد وفي جفنيه تورُّمٌ واحمرار وعلى صفحة وجهه الأسمر علامات التعب. أمّا صوته فقد بدا مجهداً كأنه آخر قطرات النّزْف.
وقفْنا يُحَدّقُ الواحد منّا في وجه صاحبه كأنه يُنكِرُه، ثم تعانقْنا بكلّ ما في القلب المُحْتضرِ من نبضٍ شحيحْ، مثل غريقيْن أوشكا على الهبوط إلى قرارٍ سحيق حين تلامسَتْ أناملهما المرتعدة.

كان المطار يموجُ بالراحلين والعائدين والمودِّعين، وكنّا ـ نحن الإثْنَيْن ـ على سفرٍٍ بعيد لايُعرَفُ مُنتهاه. سألني عن وجهتي وسألته عن وجهته، وحين استبانَ لنا أننا مفترقان وأنه ثَمّة بقية من وقت ـ انْتَبَذْنا رُكناً قصيّاً لائذين به عن عيون الحَشْد، ورُحْنا نسْترْجع ذكريات الزمن القديم.
قال لي ـ وهو يُغالِبُ بصوته المبحوح جلبة الأصوات الهادرة من حولنا، ويتحسّسُ بعيْنيْه المُرْهَقتيْن تقاطيع وجهي:
ـ هي الغُرْبة .. غُرْبة الرُّوحِ والوطَنْ ..!!
وامتدَّ بيننا حَبْلُ الحديث. سألني عن حُلْمي القديم، قُلْتُ له:
ـ رَحَلَ عنّي مُنْـذُ رحَلْتُ عنه.
وعاد يسْألني عن بقيّة الرفاق والأحبابْ، قلتُ له: انْفَرَطَ عِقْدُهُــمْ.
وبادَرْتُه بالسُّؤال وفي حَلقي غضاضة الثمَرِ المُرّ:
ـ لماذا تَسْقُطُ ثمار هذا الزمنِ قبل الأوان..؟!
قال لي وهو يُسَرِّحُ بصره بعيداً، وجحوظُ عينيه يستعيدُ بريقه المعهود:
ـ الأمان.. فاكهة الوطنِ المَُحَرَّمة.
ومضى يُحادثني . كان يُجَاهِدُ بصوته المُرْهَق غلبة التّيّارِ الجارف، وكلماته تتناثرُ مثل رغوةِ الزَّبدِ على رمال الشاطيء.
قال بنَفَسٍ مبهورْ:
ـ نحنُ كالرُّوح التي حَلّتْ بها لعْنَةُ الآلهة.. تَقْذفها الرّيحُ إلى الماء، ويطردها الماءُ إلى اليابسة، وتُسْلمها اليابسة إلى الرّيحْ ..
قالْ:
ـ وأينما حَلَلْتَ ببُقْعَةٍ من وادينا السّعيد.. فأنت المُسْتَجيرُ من الرَّمْضاءِ بالنّارْ...
قالْ:
ـ محْنَتُنا الحقيقية أننا لم نَبْلُغْ حَدَّ السّكّين.. وقَفْنا على الهامش المسكين واكتفيْنا بملامسةِ أهدابِ النّار، فبقي جُرْحُنا مُمتَلئاً بالدّمِ والصَّديدِ، نابِضاً بالوَجَعِ دون نَزْف..
قُلْتُ له بلهجة بَبغاءٍ يَدّعي الحكْمة: لا كرامة لنَبِيٍّ في وطنه.
قالَ بصوْتٍ قاطعٍ كشفرةِ الموسي:
ـ أكْتُبْ عن لساني: ولاحياةَ لنبيّ إلاّ في وطنه..!!
وقالَ أخيراً وصوته مُختنِقٌ بالعَبراتْ: حَانَ وقتُ الفِرَاقْ ..

وهو يُودّعُني تشَنّجَتْ أصابعه على كتفي النحيل كأنه يوصيني بالكِتْمانْ. تأمّلُتُ قسماتِ وجهه المُتْعَب قبل أن يسْتدير ويتوارى في زحمة المطار. وأنا أودعه النظرة الأخيرة، تذكّرْتُ صوته الواهن وضراعة عينيه، فطالعني من غياهب الذاكرة قول الشاعر بدر توفيق:

"لا تنقلوا للناسِ عَنِّي أبداً..
فليْسَ فيكم من رأى وجهي الذي أحبَبْتُهُ".