* ذاكرة المدن ( 1 )

صديقتي ( الحقيقية ) كَاتْشِيـاَ...!!

إبراهيم سعد الدين

عن المُدُنِ أتحدث. وحديثُ المُدنِ له مذاقٌ خاص، تماماً كما أن لكل مدينةٍ مذاقها الذي لا يُشبه مذاقَ مدينة أخرى، ليس يهمُّ إن كنت تستعذبه أو تَستشعر مرارته أو طعمه الحرِّيف في فمك، يكفيك أن تُحسه كلما طافت بك الذكرى، فيملؤك الشوقُ إلى لُقياها، وتَحِنُّ إلى دِفْءِ العِناقْ. أما أسوأ المدن ـ على الإطلاق ـ فهي تلك التي لا طَعْمَ لها في ذاكرتك.

المدن مثل البشر، لها طبائعهم وأمزجتهم ونزواتهم أحياناً. بعض المدن تَسقط صريع هواه من أول نظرة، وبعضها الآخر يطول بك الوقت حتى تألفه ويحدث بينكما الانسجام. بعضها تستطيب عشرته وتستخف ظِلَّه والبعض الآخر تنفرُ منه وتستثقل دمه. الآن ـ وأنا أكتب هذه الكلمات ـ أحسُّ عُمْق ومغزى ذلك التعبير الدارج الذي يجري على ألسنة العامة في بلداننا: هذه الدار ريحها ثقيل، أو هذا البلد ريحه ثقيل !!.

وللمدن أحياناً ـ مثل البشر ـ نَزَقٌ ونزوات، وبعضها الآخر عاقلُ رزين إلى الحَدِ الذي يستفزك ويغريك بالتعدي عليه !!. نعم هناك عقلٌ زائد عن الحاجة يدفعك أحياناً إلى الجنون. أعتقد أن مدينة بانكوك ـ عاصمة تايلند ـ هي خير مثال على تلك المدن النَّزِقَة أو "الرِّوِشَة" بلغة شباب اليوم. ولذلك فأنا أعشقها ـ أقصد بانكوك ـ إلى درجة الوَلَه أو الدَّرْوََشة ! على الرغم من كل شيء؛ فقرها وسوء سمعتها وعدم نظافة بعض أحيائها ونَصْبِ أهلها واحتيالهم عليك أحياناً.. و.. و.. لكن ما حيلتي والحب ـ كما يُقالُ ـ قَدَرٌ لا فِكاك منه ؟!
تستطيع أن تقول إني " مجنون بانكوك " مثلما كان قيس بن الملوح مجنوناً بليلى. أما السبب فَعِلْمه عند الله. رُبَّما لأنها مدينة "حاضنة"، تحتويك بين ذراعيها وتضمك إلى صدرها فور هبوطك على أرض مطارها، فتشم رائحة عطرها وعرقها ـ عطر الصبايا المتبرجات وعرق الكادحين فيها. رُبَّما لأنها مدينة "متواضعة"، لا أحد هناك يُحَدِّثك عن نفسه أو يُصَدِّعُ رأسك بكذبة "الأمجاد القديمة"، لا أحد يتباهى أو يَدَّعي لنفسه ما ليس فيه، الكُلُّ يهمَسُ في أذنك مُعتَذراً: هانحن.. فقراء وخُطاةٌ، نَحصلُ على لقمتنا بِشِقِّ الأنفس، نبيع أجسادَنَا أحياناً لقاء كِسْرَةِ خُبْز وكأس جِعة، لكننا بشر، وطيبون حينما نملك قَبْضَتيْ نقود، ومؤمنون بالقَدَرْ ـ مثلما يصف شاعرنا الراحل صلاح عبد الصبور الناس في بلاده !!.

في بَانْكوك قُدِّر لي أن ألتقي بصديقتي وبطلة قصتي القصيرة فيما بعد "مطر صيفي" والتي استهللتها بهذه العبارة: كاتْشِياَ لم تكن حٌلْماً، كانت هاجساً.. حَدْساً.. نبوءة.. رُبَّما، لكنها تجسَّدت أمام عيني امرأة من لحمٍ ودَمْ !!. كاتْشِيا كانت بالفعل امرأةً حقيقية ـ تماما مثل مدينتها ـ كُلُّ ما فيها حقيقي لا صنعة فيه ولا تكَلُّفْ، حتى أخطاؤها وخطاياها كانت عفوية وتلقائية كضحكة الطفل وضوء الشمس ورائحة المطر، ولذا انعقدت بيني وبينها أواصر صداقة عميقة دون أن أسألها أو تسألني عن تحمل أية تبعات لهذه الصداقة. كانت حاضرة البديهة سريعة الخاطر بارعة النكتة ، نقضي أنا وهي الساعات الطوال نتبارز بالكلمات والتعليقات اللاذعة ، ونضحك بأعلى أصواتنا ، ضحكاتٍ نابعة من القلب تتفجَّرُ من حولنا حيث جمهور المشاهدين الصغير الذي يتحلّق بنا؛ فتيات وفتيان في مثل سنها يعملون مثلها خَدَماً أو شبه خدم بالفندق، وزبائن بالمقهى ونزلاء مثلي بالفندق، وأحياناً ينضمُّ إلى جمْعنا عابرو سبيلٍ اجتذبهم الصخب واستخفّهم الضحك فانضموا إلينا.

كانت تعول ـ براتبها الضئيل ـ عائلتها المكونة من سبعة أفواه: أب وأم وخمسة إخوة صغار. ومع ذلك لم تكن تكف عن الضحك.

قلت لها وهي تودعني بصالة المطار: يوماً ما سوف أكتب قصّتكِ يا كاتشيا .
قالت ضاحكة: وماذا تقول فيها ؟!
قُلْتُ : لا أدري .. انتظري حتى أفرغَ من كتابتها .. !!
قالت: قُلْتَ لي يوماً إن نهايات قصصك دائماً حزينة.. ماذا سيكون مصيري على يديك !!
قلت ضاحكاً: الموت في أسوأ الأحوال !!
قالت ومسحة حزن تلوحُ على وجهها: الموت ليس أسوأ المصائر على أية حال !!.

عُدتُ إلى موطني ووفيت بوعدي فكتبت القصة، عبَثاً حاولت أن ألفِّقَ لها نهاية فَرِحَة، كانت نهايتها السّعيدة ـ دوْماً ـ أشبه بالنغمة النشاز، غير مُتَّسقة مع مُجريات الأحداث ومنطق الحَبْكة. أرسلتُ إليها بموجزٍ عن القصة لكني سردتُ عليها خاتمتها الحزينة كاملة، وعَقَّْبْتُ بدعابة أخيرة: أنت الآن يا كاتشيا في عداد الأموات !!.
في رَدِّها على رسالتي كتبت تقول: الموت ـ كما قلت لك ـ ليس أسوأ المصائر. واخْتَتَمَتْ رسالتها بهامشٍ جعلته أشبه بملاحظةٍ عابرة: تركتُ عملي بالفندق لأنه كما تعرف لا يفي باحتياجات المعيشة.. وأعمل الآن نادلة ـ وأشياء أخرى ـ في عُلْبَةٍ من عُلَبِ اللَّيْل !!.